اشتعل موسم الاسترزاق الرمضاني مبكرا، احتدمت المنافسة واشتد وطيسها حتي قبل أن يهل علينا الشهر الكريم، وتمددت فوضي سوق الدراما والإعلانات وتغولت، تحدت كل مساعي الضبط والربط والتنظيم، وضربت عرض الحائط بمحاولات التهذيب والتأديب والإصلاح، ولأننا نهوي ونعشق الزيادة، وباتت المبالغة فينا عادة، وسعت الحكاية منهم بزيادة، فأصبحنا نشاهد علي شاشة رمضان إعلانات طالع لها »حتة» مسلسل، أو بالأحري طوفان إعلاني هادر وفي »نهايته» بقايا مشاهد درامية مهلهلة، وحوارات مبتورة وأفكار مبعثرة، ولو زعلان البحر مليان، وأنت لسه شفت حاجة؟! وقف أصحاب الوكالات الإعلانية لجمهور الدراما بالمرصاد، تحالفوا علي تشويه وإفساد الأعمال الرمضانية، وابتلاع الشاشة الرمضانية ومشاهديها، فأينما نولي وجوهنا شطر الشاشة نجد الإعلانات تطاردنا عشرات المرات من كل حدب وصوب، دخلوا سباقا عبثيا مع الدراما للاستئثار بذهن ووجدان وجنان المشاهدين، فصاروا يشاهدون إعلانات تتخللها فواصل درامية، سلبت وقتهم ونغصت عليهم حقهم في الاستمتاع والمتابعة والتذوق، وقلبت الأوضاع رأسا علي عقب، وخلقت لدينا حالة من التشتيت والالتباس والارتباك والحيرة! تخطي أصحاب الوكالات المفهوم والقواعد المتعارف عليها للإعلان، فأصبح عملا إبداعيا مبهرا وجذابا، له قصة وأحداث وحبكة ونجوم بالملايين، حتي ضل »المنتج» المستهدف تسويقه الطريق، وتاهت »السلعة» في زحام الأفكار والموضوعات والموسيقي والأغاني والاستعراضات، ولم يتبق في ذاكرة الجمهور من الإعلان سوي السخط والغضب من هذا السفه الدعائي، سواء الذي يسعي لابتزاز مشاعرهم وحثهم علي التبرع بأموالهم وملابسهم وطعامهم للمستشفيات والأيتام والفقراء والمسجونات، أو ما يروج للمنتجعات والقصور والفيلات والموبيلات وغيرها من السلع الاستفزازية!! والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذا الصمت الرهيب من النجوم وصناع الأعمال علي تلك المهازل التي تفسد أعمالهم وتبدد مجهوداتهم وتشوه إبداعاتهم؟! الإجابة ببساطة تكمن في شطط وإسراف وغلو بورصة أجور النجوم التي تشتعل عاما بعد الآخر، والملايين الجائرة التي يحصدونها بلا مبرر أو ذريعة، والتي تخطت حاجز ال 60 مليون جنيه في العمل، أي أكثر من 120 ضعف ما يتقاضاه الوزراء الحاليين في عام كامل!! هذا بخلاف ما يتقاضاه السادة النجوم الكرام من سبوبة الإعلانات، لذا ليس عجيبا أن تجبرهم تلك الملايين علي الوقوف صاغرين عاجزين عن مقاومة ذلك العبث، والتصدي لحماية أعمالهم المهترئة والمهلهلة بفعل فاعل، وليس غريبا ألا يعلو صوت فوق صوت الوكالات الإعلانية، والتي تفرض علي واقعنا نجومها وأذواقها وأفكارها وأخلاقياتها، بعد أن أضحت لها الكلمة الأولي والأخيرة والفاصلة! وبرغم يقيني من صعوبة وضع قواعد وضوابط تنظم عدد الفواصل الإعلانية، وتحديد مدد زمنية لها، في ظل ذلك الشطط والغلو الجنوني في أجور النجوم الفلكية، وما تتحمله ميزانية المسلسلات نتيجة تلك المبالغ المالية الطائلة، إلا أنني استبشرت حينما أعلن المجلس الأعلي لتنظيم الإعلام فرض عقوبات وغرامات مالية تصل إلي 100 ألف جنيه علي القنوات المخالفة، وما يمكن أن يعكسه ذلك علي منظومة الإنتاج الدرامي، لكن أحلامي ذهبت أدراج الرياح بعد أن وصلت تلك الأعاصير والفيضانات الإعلانية للذروة هذا العام بالمخالفة لكل التوقعات، وصار من نصيب كل 30 دقيقة درامية 45 دقيقة إعلانية، ولم يفلح اللجوء القصري إلي المواقع الإلكترونية، بعد أن نالها من الحب جانب، ولم ترحمها الوكالات الإعلانية من الهبوط الاضطراري، فتمددت وتشعبت وتغلغلت بين المشاهد واللقطات!! يا سادة إننا أمام ظاهرة خطيرة تحتاج لعلاج جذري وناجع، بعد أن تحولت الشاشة الصغيرة لمغارة »علي بابا»، ينهل منها النجوم وأصحاب بزنس الإعلانات والفضائيات وفرسان المنابر الإعلامية والبرامج الحوارية، دون ضابط أو رابط، أو سقف لهذه الملايين المهدرة التي باتت تسبب حالة من السخط والنقمة والغضب لدي الجماهير، في وقت يكابد فيه المواطن الأمرين لتوفير بضعة جنيهات يسد بها احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب ومواصلات وكهرباء ومياه وغاز، وفي ظل موجة غلاء أسعار خيالية تفوق مقدرة الأسرة المصرية، وأوضاع معيشية واقتصادية وإنسانية متدهورة. يا حضرات إذا كان من حق النجم رفع أجره إلي عنان السماء، والتسابق علي امتلاك القصور والفيلات والسيارات الفاخرة، فإن لجمهوره الذي صنع نجوميته حق عليه، وكذلك البلد التي احتضنت موهبته، وهذا لا يتأتي من خلال المشاركة في إعلانات التسول والشحاتة والاستعطاف وابتزاز المشاعر الإنسانية، لذا علي الدولة وضع حد لتلك المهزلة وسقف لهذه الملايين، والإسراع بتطبيق الضريبة التصاعدية التي ينص عليها الدستور، ليس علي أجور الفنانين فحسب، وإنما علي كل أصحاب المهن الحرة، وهذه ليست بدعة لكنه نظام معمول به في كل الدول الغربية المحترمة، والبلاد المتقدمة التي تدرك أهمية العدالة الاجتماعية في مستقبل الأوطان. .. حقا لقد وسعت الحكاية وزادت وفاضت وباخت فهل من مجيب؟!