في الأونة الأخيرة اثيرت ضجة ليس لها أساس حول اعمال الروائي الكبير نجيب محفوظ ، وأحقية الدولة في حقوق نشر أعماله بصفتها ثروة قومية وثقافية وليست حكرا علي دار نشر بعينها ، وهذا هراء ، لأن هناك حقوق نشر وعقود ، وورثة يحددون من الأحق بأحقية هذه المؤلفات التي تمثل في الحقيقة ثروة فكرية بكل جوانب الإبداع . بعيدا عن هذا الجدل غير المجدي مازالت أعمال الروائي الكبير تمثل أعلي نسبة مبيعات في العالم العربي وفي مصر من خلال معارض الكتاب التي عقدت مؤخرا في عدة عواصم عربية مثل بغداد والرياض والمنامة وبعد عدة أيام في معرض أبوظبي الدولي، وهذا يعكس قيمة الأعمال الأدبية القيمة التي تبقي رغم رحيل صاحبها. جاءت عناوين المؤلفات كالتالي: »الحرافيش، حديث الصباح والمساء، أولاد حارتنا، خان الخليلي، ثرثرة فوق النيل، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، أفراح القبة، همس الجنون من أكثر الإعمال رواجا .. ونتوقف عند » همس الجنون » كأول عمل إبداعي بعد ترجمة كتاب مصر القديمة وكعمل رائد في مجموعة قصصية تحمل عنوان القصة الأولي من بين سبعة وخمسين عملاً إبداعياً في حياة نجيب محفوظ . همس الجنون قصة من بين ثماني وعشرين قصة قصيرة يضمها كتاب يحمل نفس العنوان صدرت أول مرة في طبعتها الأولي عام 1938 ومازالت تحقق أعلي المبيعات في جميع المحافل العربية والمعارض الدولية للكتب في كل أنحاء الوطن العربي ، فما هو سبب أن أول عمل لروائي يظل عملا رائدا في حياته ؟ هذا ما يحدث لبعض الروائيين والقصاصين والشعراء أيضا أمثال محفوظ القيمة والإبداع عالميا وعربيا ؟. يبقي السبب الحقيقي وراء ذلك يكمن في قيمة ما يحمله العمل في تأثير إنساني ونفسي لا يبطل مع مرور وتطور الزمن.. همس الجنون » أحد هذه الأعمال الخالدة وهي قصة تبدأ بسؤال طبيعي عن : ما هو الجنون ؟ ويجيب محفوظ في سطوره الأولي » إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج . أما الباطن ، أما الجوهر ، فسر مغلق.» هذا السر المغلق الذي اعترف به محفوظ في بداية قصته هو سر سحر كتاباته وسرده الذي يظل عذبا رقراقا كنهر لا ينضب.جعل بطل القصة فاقدا للعقل ليمنح السرد حرية الاغراق في طرح أسئلة الوجود الكبري بلارقابة عقلية أو فكرية ترجع اجابات الاسئلة في نطاق قوانين العقل السائد ومن هناجاء لنا بسرد حر من ذهن حر حتي لو كان أحد أوصافه الجنون والعزلة ، وعدم اقتراب العقلاء منه، خشية من رد فعله غير المحسوب ،فلا حرج علي المجنون ، منتهي حرية الفكر وتحرير العقل من قوانين الحياة الملزمة. في طرحه لأسئلة تافهة لا يتوقف عندها العقل المهموم.وأتي محفوظ بوصف حرية المجنون في همسه ساردا » لم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش في إهابه دهرا طويلا قانعا مطمئنا . كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه علي رغمه ؟! أجل علي رغمه وقد اجتاحه موجة غضب وهو يحث خطاه وكبر عليه أن يرضي بقيد .أليس الإنسان حرا» وتفكر ماليا ثم أجاب بحماسة : بلي أنا حر . وملأه بغتة الشعور بالحرية ، وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتي استخفه الطرب أجل هو حر نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينا لا سبيل إلي الشك فيه إنه حر يفعل ما يشاء كيف يشاء حين يشاء .... حل مسألة الإرادة في ثانية واحدة» القصة تدور حول الحرية في غياب العقل وإطلاق الحواس الحرة الطليقة التي تنتهي به عاريا متحررا من كل أعبائه التي رآها في ملابسه ، فليظل عاريا كما خلقه الله وعابثته ضحكته الغريبة فقهقه ضاحكاواندفع في سبيله . تضم المجموعة قصصاً أخري مثل الزيف، الشريدة، خيانة في رسائل، من مذكرات شاب، الهذيان، يقظة المومياء، كيدهن، روض الفرج، هذا القرن، الجوع، بذلة الأسير، نحن رجال، الشر المعبود، الورقة المهلكة، ثمن السعادة، حلم ساعة، الثمن، نكث الأمومة، حياة للغير، مفترق الطرق، إصلاح القبور، المرض المتبادل، حياة مهرج، عبث أرستقراطي، مرض طبيب، فلفل، صوت من العالم الآخر.. »همس الجنون» من أروع كتابات »نجيب محفوظ» كل قصة تجذبك للأخري ، وكل حادثة تشوقك لمتابعة القراءة لتعرف النهاية ، في تلك القصص تقابل أغرب البشر وأشدهم إثارة للدهشة والتساؤل ، تجد من أنقذ عدو أبيه من الموت ، ومن مات مقابل حذاء ، تري من عشق امرأة وتزوج ابنتها ... تشاهد من أنقذ مصير أسرة ، ومن دمر حياة رجل ببضع جنيهات ، ومن أحب أمه دون أن يعرف. ورغم ذلك نجد أن قصص المجموعة تكاد تكون علي مستوي متقارب من القيمة والجودة علي غير الشائع الذي نجده في قصص كثيرة أن تسقط قصة أو قصتان من العمل القصصي في مجمله أما مع نجيب محفوظ الأمر يختلف معه في روعة إنضباط إبداعه من العمل الأول الذي غالبا كثير من الأدباء يتنكرون منه . المجموعة في مجملها سرد في تصوير رائع للنفس الإنسانية علي اختلاف الشخصيات التي حفلت بها قصص المجموعة..