ماذا لوضاعت الأم في الزحام، وتاهت في الطريق، ولم يعثر عليها ، عندما فلتت يديها من بين يد زوجها في محطة متروالأنفاق في مدينة سول الكورية . فجأة أصيبت الأسرة بالشلل لضياع الأم الريفية البسيطة التي لا تقرأولا تكتب ولكنها محور حياة أسرتها التي اعتقدوا جميعا أن ما تفعله في حياتهم أمر طبيعي وعادي ! حينما تاهت الأم انتبهوا. هذه هي الفكرة التي تدور حولها رواية الكاتبة الكورية كيونغ سوك شين في روايتها التي صدرت طبعتها الرابعة باللغة العربية حديثا » أرجوك اعتن بأمي» لتقلب حياة أسرة مكونة من خمسة أبناء وأبيهم حينما تاهت الأم في زحام محطة متروالأنفاق وهي في طريقها مع زوجها لزيارة ابنها ليحتفلا بيوم ميلادهما مع أبنائهما في يوم ميلاد الأب . فقد ضحت بيوم ميلادها لتخفف عن الجميع فأنقلبت حياة الأسرة رأسا علي عقب وبدأت مسيرة الأسرة البحث عن الأم المفقودة ، الأم التي ضحت بنفسها جسدا وروحا لإسعاد الأخرين ، وفي رحلة بحثهم عن أمهم اعترفوا بإهمالهم لهذه الأم وأخطارهم في معاملتها وعدم تقدير تضحياتها ..يفزعون جميعا ويبحثون عنها في كل مكان دون جدوي .. يصرخون في وجه بعضهم ويصفقون الأبواب ويدخنون بشراهة .. يغوصون في أنفسهم وذكرياتهم ليتسع حجم الدائرة من حدود الحادثة الأخيرة إلي عمر بأكمله .. جاءت الرواية في أربعة فصول.. كل فصل منها يتناول فردا في العائلة يسرد ذكرياته وما يشعر به تجاه غياب الأم ، فمرة الإبن الأكبر » هايونغ تشول » ومرة الإبنة الكبري الصيدلانية ومرة الزوج ..أما »تشاي هون »الإبنة الثالثة الكاتبة فتحتل المساحة الأكبر من السرد طوال الوقت ، كتبتها كنوع من الاعتراف والمواجهة الجالدة للجميع بما فيهم نفسها التي لم تستثنها من صيغة المخاطب مما يوحي أننا نقرأ روايتها عن أمها التي كتبتها بعد الأحداث.. ومع نجاحها ككاتبة تفشل في صياغة كتابة إعلان مؤثر عن فقد أمها فالسرد يكشف انها لا تعرف معلومات كافية عنها كتاريخ عمر الأم ولا أحد ابنائها يحتفظ بصورة حديثة لها لوضعها مع إعلان الفقد ..أما »هايونغ تشول» فهوالابن الأكبر الذي كان مفضلا لدي أمه .. يتذكر مواقف صاخبة التضحية لأمه ثم يتذكر بأسف أنه عند وصول والديه كان في حمام الساونا وبينما كانت أخته في الصين تشاهد تحليق الطائرات الورقية كانت أمها تنهارعلي رصيف المحطة .ويأتي دور الزوج الصامت فيتذكر كيف صارت تنسي تفاصيل روتينية دون أن ينتبه.. وأنه حتي حين رآها تضع رأسها في طست من الثلج أوفي الثلاجة من شدة الألم والصداع تجاهل ذلك ..ويسترجع تقصيره معها كان يراها كالشجرة الثابتة التي لا تتحرك من مكانها إلا إذا اجتثت .. لكنه الآن يناديها دون مجيب .أما الإبنة الكبري فتزرع أخيرا جذور شجرة البرسيمون التي أعطتها لها أمها وألحت لتزرعها عندها لتتذكرها حينما تطرح الثمار لكنها تجاهلت الأمر فقد رأتها هزيلة لا ترضيها لكنها فوجئت بتمدد جذورها ونموها بشكل غريب ..إنها أرادت أن تشجعها علي التحمل وتدفعها لتذكر أمها المنسية ..فهي شجرة تشبه هذه الأم . الرواية تأخذنا إلي مأزق موجع حينما نتصور أن دور الأم في حياتنا هي إسعادنا دون النظر إلي سعادة الأم وطموحها وأحلامها وكأنها ولدت لتضحي دون مراعاة لإنسانيتها وقد عبرت الابنة الكاتبة في رسالتها الاعترافية لأختها أثر فقدها لأمها :» منذ فقدنا أمي بدأت أفكر : هل كنت ابنة صالحة لها؟ هل أستطيع أن أبذل في سبيل أولادي التضحيات نفسها التي بذلتها هي في سبيلي؟ إنني أعرف شيئا واحدا وهوأنني لا أقوي علي تحقيق ما حققته مهما حاولت ، إذ أنني أشعر عندما أطعم أولادي بالانزعاج والعبء وكأنهم يثقلون كاهلي ،إنني أحب أولادي وأشعر بالتأثر لوجودهم وأتساءل هل أنجبتهم فعلا ؟ ولكني لا أستطيع منحهم كل حياتي كما فعلت أمي من أجلنا .إنني مستعدة لأن أمنحهم عيني لواحتاجوا إليهما ولكنني لست كأمي ،فأنا أظل أتمني أن يكبرطفلي بسرعة وأشعر أن حياتي أصبحت معطلة بسبب الأولاد وأنوي أن انتظر حتي يكبر الطفل قليلا ثم أرسله إلي بيت الرعاية النهارية أوأجد له جليسة أطفال ثم أعود لعملي إن هذا هو ما اعتزم فعله لأنني أريد أن أعيش حياتي .... وتظل تسرد الكاتبة تفاصيل حياتها التي لا تستطيع الصبر علي القيام بكل المهام التي تبدوعادية وبسيطة التي كانت تقدمها أمها لها هي وأخوتها في صبر وحب وتصل إلي الاعتراف بأنهم أهملوا أحلام أمهم وأعتقدوا أنها ولدت لتكون أمهم » لم تتسن لأمنا الفرصة لتحقيق أحلام شبابها وواجهت بمفردها كل ما فرضته عليها تلك المرحلة من فقر وحزن ويأس ». تأخذنا الكاتبة لهذا المأزق الموجع الكاتبة الكورية في روايتها » أرجوك اعتن بأمي » التي أصدرتها الدار العربية للعلوم ناشرون وترجمها إلي الإنجليزية تشاي يونغ كيم وقام بالتعريب أفنان محمد سعد الدين وقد حصلت الرواية علي جائزة » مان » للآداب في آسيا عام 2012 وتمت ترجمتها لعدة لغات ولقيت صدي كبيرا..وإن ظلت الأم في جميع الآداب العربية والعالمية تمثل صورة الوطن الذي ينساه الابناء وضياع الهوية وسط ذوبان العالم في عالم واحد بالحلم الأكبر في الطموح والتطلع لحياة أفضل بعيدا عن الوطن الأم والانتماء إلي المكان الذي ولدنا فيه وكبرنا وعشنا فيه غرباء لا نشعر به إلا حينما يهددنا وجع الافتقاد .. »أرجوك أعتن بأمي» رواية تفجر أوجاع الأوطان في كل بقاع العالم وتوهان الأم الأصل وسط الزحام ولتكن محطة متروالأنفاق في مدينة سول آخر نقطة في القارة الأسيوية .. وتترك الكاتبة سؤالا حائرا هل لوعادت الأم سوف يحسن الأبناء تعاملهم معها ؟ وهل اعترافهم بأخطائهم تجاه الأم يغير من معاملتهم معها ؟