»قيراط حظ، ولا فدان شطارة» ... أحد أمثلتنا الشعبية، التي يتواري خلفه البعض، معولين عليه إخفاقاتهم. لم أقتنع به يوماً في حياتي، فقد كان، ولازال، مبدئي هوالاجتهاد في العمل ... ثم الاجتهاد في العمل ... ثم الاجتهاد في العمل لتحقيق النجاح. إلا أن الظروف قادتني، مؤخراً، لمراجعة ذلك المثل، إذ حصلت بالحظ، وبمحض الصدفة، علي تلك الوثيقة الأمريكية، ذات الدرجة العالية من السرية، عن مصر عام 2020، والتي نشرت بعض تفاصيلها، من قبل، منذ عامين. لم يصدق الكثيرون ما ذُكر في تلك الوثيقة من معلومات، ولكن اليوم، ومع بدء تحقيق ما فيها، أدرك الجميع صدقها، وأهمية ما ورد بها. فلقد ذكرت الوثيقة، أن مصر تسبح علي بحر من الغاز الطبيعي والبترول، بما سيحقق لها اكتفاء ذاتياً من الغاز الطبيعي اعتباراً من عام 2018، وسيفيض الإنتاج بما يسمح بالتصدير في عام 2020، وهو ما بدأت بشائره في الاكتشافات البترولية في شمال الدلتا، علي سواحل مصر علي البحر الأبيض المتوسط. تذكرت الحظ، مرة أخري، هذا الأسبوع، وأنا أراجع أوراق بعض ملفاتي القديمة، عندما كُلفت، وصديقي اللواء أمين حسني، بالسفر للولايات المتحدةالأمريكية، للتعرف علي أحد الأنظمة المعمول بها في الجيش الأمريكي، بهدف نقلها إلي القوات المسلحة المصرية. كان النظام أمريكي الصنع، ولا يطبق سوي في المملكة المتحدة، وفرنسا وألمانيا، نقلاً عن الولاياتالمتحدةالأمريكية، فقضينا في العاصمة الأمريكية، واشنطن، فترة طويلة، للتعرف علي أصل وتفاصيل ذلك النظام. نجحنا، خلال تلك الفترة، في إقناع المسئولين الأمريكيين، بأننا سنحتاج إلي عونهم في تطبيق ذلك النظام في مصر، مما أسعدهم كثيراً وفتح شهيتهم، لما سيتيحه لهم، ذلك، من الحصول علي كم هائل من المعلومات، فأتاحوا لنا الدخول إلي الغرف المغلقة، بمبني البنتاجون، التي لا يسمح بدخولها إلا لعدد محدد من العاملين به. وبعد عودتنا إلي القاهرة، أبلغنا الجانب الأمريكي أننا سنعتمد علي ما اكتسبناه من خبرة، لتنفيذ ذلك النظام في مصر، بما يتوافق مع احتياجات قواتنا المسلحة، مما أصابهم بخيبة أمل كبيرة. ومبني البنتاجون، لمن لا يعرفه، هو مقر وزارة الدفاع في واشنطن. ورغم أنه مبني أثري قديم، إلا أن تصميمه قادر علي استيعاب جميع أعمال التطوير، لمواكبة العصر الحديث، خاصة فيما يخص شبكات الحاسب الآلي، التي أدخلها وزير الدفاع، روبرت ماكنمارا، عام 1963، في عصر الرئيس الأمريكي كنيدي، ذلك الوزير الذي يعتبره، الجيش الأمريكي، الأب الروحي للتطوير، لاستحداثه ما يعرف بنظم بحوث العمليات، التي تستخدم أحدث تقنيات العصر في التخطيط للعمليات العسكرية. وخلال تجولي بين أروقة البنتاجون، استوقفني الدور الخامس به، وهو الدور المعني بالدراسات والبحوث في الجيش الأمريكي، ويشغله مجموعة من الجنرالات العسكريين المتقاعدين، المتميزين في أفكارهم وخبراتهم، والذين تم استدعاؤهم بالزي المدني، بعد الانتهاء من خدمتهم العسكرية، ليكونوا فرق عمل لتطوير إمكانات الجيش الأمريكي، كل في مجالات تخصصه؛ فرقة لتطوير مجالات الاستخدام القتالي للقوات، وأخري لتطوير أنظمة الدفاع الجوي، وغيرها لتطوير عمل القوات الجوية، وغيرهم الكثير، ممن لا يعنيهم سوي التنافس المهني، لما فيه مصلحة الجيش الأمريكي. أثناء تلك الزيارة، التي أشرت إليها، كان الجيش الأمريكي يعمل علي تطوير أسلوب الدفاع المعمول به، وهو الدفاع المتحرك، أو“Mobile Defense”، بعدما نجح المصريون في اختراقه، أثناء حرب أكتوبر 1973، إذ كان العدو الإسرائيلي يتبناه في شرق القناة. وكان لي نصيب أن أشارك في جلسة حوار مغلقة، مع الجانب الأمريكي، عن مدي ملاءمة أسلوب الدفاع المتحرك للعصر الحديث. وتوصلت مجموعات البحث والتطوير إلي أسلوب حديث لنظم الدفاع، وهوالدفاع النشط، أو“Active Defense” الذي تعمل به القوات الأمريكية، حالياً. وكان مدعاة للفخر، أن يكون هذا التطوير، نتاج الخبرة المصرية في القتال، التي غيرت الكثير من المفاهيم والقوانين العسكرية. واليوم، تطور أسلوب البحث والتطوير في البنتاجون، وبالرغم من الإبقاء علي الدور الخامس، وقاطنيه من الخبراء العسكريين، للبت في عدد من أعمال التطوير المحدودة، التي تتطلب سرعة اتخاذ قرارات خاصة بالبنتاجون، خاصة المعنية بالمهام الجديدة، عند فتح مسرح عمليات جديد، إلا أنه تم التوسع في مهام البحث والتطوير، باستحداث منظمة، داخل الجيش الأمريكي وهي »وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة»، التي تشكلت بقرار من الكونجرس الأمريكي في عام 1958، يخول لها سلطة التعاقد مع العلماء والباحثين، في كافة المجالات المدنية في الجامعات الأمريكية، واستخدامهم لتطوير، واستحداث المعدات العسكرية في الجيش الأمريكي. بل إن الكونجرس أطلق يد الوكالة في الإنفاق علي أبحاثها، دون التقيد بالقوانين واللوائح العادية، أوبالإجراءات البيروقراطية! يطلق علي هذه المنظمة اسم »عقل البنتاجون»، أو“The Pentagon Brain”، لما قدمته للعالم من اختراعات، غيرت بها وجه الإنسانية، مثل ... شبكة الإنترنت ... ونظام تحديد المواقع (GPS). ولعل من أهم أدوات الحرب التي استحدثتها هذه الوكالة، كانت الطائرات الموجهة بدون طيار “Drones” والتي ظهرت فكرتها، والحاجة إليها إبان حرب فيتنام، نتيجة للخسائر البشرية الفادحة التي تكبدها الجيش الأمريكي، آنذاك. فتم ابتكار الطائرة، وتصميمها، وتطويرها من حيث الحجم، ومن حيث القدرة علي حمل أدوات التجسس، والذخائر، مع القدرة علي عدم اكتشافها رادارياً. وجاء أهم استخدام لتلك النوعية من الطائرات في أفغانستان، ليبدأ العالم بعد ذلك في محاكاة الفكرة، وتنفيذها وتطويرها، كل بما يتناسب مع احتياجاته العسكرية أوحتي المدنية. فصار عدد الدول المنتجة لهذا الطراز من الطائرات، نحو80 دولة. ويعد أكبر نجاح لهذه الطائرات، في العصر الحالي، هو ما نفذته من أعمال تصفية للعديد من قادة الجماعات الإرهابية حول العالم، بدءاً من ثوار أفغانستان، وحتي جماعات داعش في العراق وسوريا واليمن، مؤخراً، إضافة إلي حجم المعلومات التي قدمتها، تلك الطائرات الموجهة بدون طيار، عن مناطق المعارك، وطبيعتها، في مختلف بقاع العالم. كل تلك الأمور، تذكرتها اليوم ... وأقر بأن الحظ قد خدمني فيها ... سواء بالحصول علي تلك الوثيقة الأمريكية التي تتناول وضع مصر بحلول عام 2020 ... أو بإتاحة الفرصة لي للتواجد داخل مبني البنتاجون الأمريكي، وفي أحد مناطقه المحاطة بالسرية التامة، والتي لم يسمح لأي أجنبي بزيارتها من قبل.