الدور الخامس، من مبنى البنتاجون، فى العاصمة الأمريكيةواشنطن. هو الدور الوحيد، الذي، إن أذن لك بالوجود فيه، تشعر بأنه مهجور. فممراته طويلة. وأبواب مكاتبه مغلقة. والحركة به متوقفة، ولا تكاد تسمع به صوتاً، ولا حتى همساً، عكس باقى أدوار هذا المبنى، الذى يعج بالمسئولين عن إدارة أكبر قوة عسكرية فى العالم. داخل كل غرفة من غرفات الدور الخامس، تقبع مجموعة من العلماء، والمفكرين، يبحثون عن علوم المستقبل، ليس للولايات المتحدة، فحسب، وإنما للعالم بأسره. بعضهم من جنرالات أمريكا السابقين، يبحثون فى إمكانية تطوير أساليب القتال، واستخدام القوات. وآخرين من المهندسين، يتباحثون حول مستقبل الأسلحة والمعدات الأمريكية، وكيفية تحديثها، وتطوير أساليب استخدامها. ومن هذا الفكر، اشتقت كل المؤسسات المدنية، شركات كانت أو مصانع، فى أمريكا، وباقى دول العالم، فكرة البحث والتطوير. واليوم، نتناول واحدة من هذه المنظمات، داخل الجيش الأمريكى وهى «وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة»، التى ابتكرت أحدث الاختراعات، وقدمتها للعالم، لتغير بها وجه الإنسانية، فكان من ابتكاراتها مثلاً، شبكة الإنترنت، ونظام تحديد المواقع (GPS). وقد أطلق على هذه الوكالة اسم عقل البنتاجون وهو نفس عنوان الكتاب الذى صدر فى الربع الأخير من عام 2015، للكاتبة الصحفية Annie Jacobsen والذى حقق مبيعات عالية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، إذ إنه، ولأول مرة، يتم تناول الاختراعات الجديدة فى الجيش الأمريكي، وما تقدمه للعلم المدنى الحديث، خاصة شبكة الإنترنت، بهدف إحداث ثورة فى مجالات العلوم العسكرية، بما يحقق للولايات المتحدة السيطرة، والسيادة على باقى جيوش العالم. لقد تشكلت «وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة»، بقرار من الكونجرس الأمريكى فى عام 1958، يخول لها سلطة التعاقد مع العلماء والباحثين، فى كل المجالات المدنية فى الجامعات الأمريكية، واستخدامهم لتطوير، واستحداث المعدات العسكرية فى الجيش الأمريكي. بل إن الكونجرس أطلق يد الوكالة فى الإنفاق على أبحاثها، دون التقيد بالقوانين واللوائح العادية، أو بالإجراءات البيروقراطية. وفى عام 1972، انتقلت هذه الوكالة من مبنى البنتاجون، إلى مقر مستقل بولاية فيرجينيا، بعد أن ارتفع عدد العاملين بها بصورة مطردة، من ناحية أخرى، كان الهدف من الانتقال هو الحفاظ على سرية أعمالها وأنشطتها، بعيداً عن مبنى البنتاجون. ولعل من أهم أدوات الحرب التى استحدثتها هذه الوكالة، كانت الطائرات الموجهة بدون طيار والتى ظهرت فكرتها،والحاجة إليها إبان حرب فيتنام، نتيجة للخسائر البشرية الفادحة التى تكبدها الجيش الأمريكي، آنذاك. فتم ابتكار الطائرة، وتصميمها، وتطويرها من حيث الحجم، ومن حيث القدرة على حمل أدوات التجسس، والذخائر، مع القدرة على عدم اكتشافها رادارياً. وجاء أهم استخدام لتلك النوعية من الطائرات فى أفغانستان، ليبدأ العالم بعد ذلك فى محاكاة الفكرة، وتنفيذها وتطويرها، كل بما يتناسب مع احتياجاته العسكرية أو حتى المدنية. فصار عدد الدول المنتجة لهذا الطراز من الطائرات، نحو 80 دولة. ويعد أكبر نجاح لهذه الطائرات، فى العصر الحالي، هو ما نفذته من أعمال تصفية للعديد من قادة الجماعات الإرهابية حول العالم، بدءاً من ثوار أفغانستان، وحتى جماعات داعش فى العراقوسوريا واليمن، أخيرا، إضافة إلى حجم المعلومات التى قدمتها، تلك الطائرات الموجهة بدون طيار، عن مناطق المعارك، وطبيعتها، فى مختلف بقاع العالم. كما تعمل هذه الوكالة، حالياً، على تطوير أنظمة آلية القيادة والسيطرة، لكل مستويات القيادة، بدءاً من مستوى قيادة الكتيبة، واللواء، والفرقة، والفيلق، وذلك باستخدام التطورات الحديثة فى علوم الفضاء الإلكتروني، ومنصات التواصل الاجتماعى ووصل الأمر إلى تمكن هذه القيادات من إصدار أوامر الاشتباكات، وفقاً لما هو مخزن لديها من معلومات، على أجهزة الحواسب الآلية. إضافة إلى ما تقوم به من جهد، لتطوير أنظمة مراقبة الحدود للدول، خاصة الحدود البرية، ذات المواجهات الكبيرة، بهدف تقليل حجم القوات المستخدمة فى عمليات تأمين الحدود... وتقول صاحبة الكتاب، إن ما كان يُنظر إليه فى الماضى على أنه درب من دروب الخيال العلمي، أصبحت، الآن، هذه المؤسسة الأمريكية قادرة على تحقيقه فى الواقع. ومنذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر، والمؤسسة عاكفة على اختراع الأدوات، والمعدات، والأجهزة اللازمة لمكافحة الإرهاب حول العالم، ومن المنتظر فى القريب العاجل أن يتم الكشف عنها، خاصة أن الكونجرس الأمريكى كان قد ضاعف ميزانية الوكالة فى 2005، مؤكداً على أن أحد أهدافها الجديدة، هو الحد من الخسائر البشرية، فى أى عملية مستقبلية، للجيش الأمريكي. وأذكر يوم أن وافق الكونجرس الأمريكى للرئيس أوباما، على السماح له باستخدام القوة العسكرية، ضد تنظيم داعش، أو التنظيمات الإسلامية المتطرفة، فى الشرق الأوسط، أذكر أن خرجت كل الصحف الأمريكية، فى صباح اليوم التالي، وعناوينها الرئيسية تقرأ «لا استخدام لقوات برية على الأرض». وتتخذ الولاياتالمتحدةالأمريكية، من سورياوالعراق واليمن، حقولاً لاختبار الاختراعات الجديدة لهذه الوكالة، والتى ننتظر المزيد منها قريباً، وهو، للأسف، ما سيزيد الصراع اشتعالاً فى المنطقة! [email protected] لمزيد من مقالات ◀ لواء د. سمير فرج