تلعب البيانات والمؤشرات الإحصائية دوراً هاماً وضرورياً في رسم السياسات العامة، والاقتصاد بصفة خاصة. وقد تواصلت الجهود لتطوير قواعد البيانات والإحصاءات الاقتصادية، وسرعة نشرها وإتاحتها سواء للحكومة أو المستخدمين من القطاع الخاص والأفراد، وكان للجهاز المركزي للإحصاء دور في هذا التطوير. ولاشك أن اكتمال الفائدة من تدقيق البيانات وسرعة إتاحتها لا يتحقق سوي بتحليلها بعمق، وفهمها بموضوعية، وعرض دلالاتها الحقيقية. ويأتي في مقدمة المؤشرات الاقتصادية الهامة بيان الرقم القياسي للأسعار، الذي يقيس التغير في المستوي العام لأسعار السلع والخدمات الاستهلاكية، وهو ما يعرف »بمعدل التضخم«، ولعله أصبح ملحوظاً أن الجهاز المركزي للإحصاء يقوم بتجميع وقياس ونشر هذا الرقم في نهاية الأسبوع الأول من كل شهر عن متوسط الأسعار في الشهر السابق، مع مقارنة المتغيرات في نسبة التضخم بين شهرين متتاليين، وبين الشهر الأخير ونظيره في العام السابق وقد لايعرف البعض أن هذه البيانات لم تكن تتاح أو تنشر قبل انقضاء فترة طويلة من الزمن. ولا تقل أهمية مؤشر معدل التضخم عن مؤشر التغير في قيمة الناتج المحلي الإجمالي (أو الدخل القومي) مقوماً بالأسعار الجارية، حيث توافر المؤشران معاً (وليس بأيهما وحده) يتم قياس مدي التغير في مستوي المعيشة، وعندما نقيسه بالتغير في متوسط الدخل الحقيقي للفرد، ولتحديد هذا التغير أو معدل النمو الاقتصادي الحقيقي يتم طرح معدل التضخم من نسبة الزيادة في القيمة الإسمية بالأسعار الجارية للناتج أو الدخل. وفي بعض الأحيان نجد أن ينشر بيانات الأسعار والتضخم في صورة تقارير إخبارية أو تحليلية من قبل بعض الصحف لا يعكس دلالة ومعني الأرقام بالشكل الحقيقي فعلي سبيل المثال إذا أشرنا إلي أن التضخم ارتفع إلي 10.3٪ في ديسمبر 2010 فهذا معناه في المطبخ الاقتصادي، أمران أولهما هو وجود اتجاه عام لانخفاض معدل التضخم، وهذا اتجاه محمود، لأن الغلاء يلحق أشد الضرر بمستوي معيشة الفئات الفقيرة وأصحاب الدخل الثابت والمحدود، وما يهمنا بدرجة أكبر هو مقارنة نسبة التضخم في ديسمبر 2010 (10.3٪) مع 13.2٪ في ديسمبر 2009، بل ومع 18.3٪ في ديسمبر 2008، الدلالة الواضحة تتمثل في أن موجة الغلاء التي هبت علي الأسواق في مصر نتيجة أزمة الأسعار العالمية للسلع الغذائية، والأزمة الاقتصادية العالمية، قد هدأت في السنة التالية لعام الأزمة، ثم استمر معدل التضخم في التراجع بوضوح عام 2010، أي أن ما يحمله نشر نسبة التضخم في ديسمبر 2010 هو انخفاض معدل التضخم وليس ارتفاعه.ومع نشر نسبة التضخم عن شهر ديسمبر، يمكن أن نقول نفس الشيء إذ يبلغ متوسط التضخم في عام 2010 ككل حوالي 11٪ مقارنة ب11.8٪ في عام 2009 و 18.3٪ في عام 2008، والأكثر من هذا، أن هذا التراجع الملموس في معدل التضخم، كان مصحوباً بقفزة مؤقتة في أسعار بعض السلع وفي بعض الأوقات يلزم ذلك ضرورة المتابعة القريبة لأحوال الأسواق، وتوافر السلع، وسرعة التعامل بمرونة مع المشكلات الطارئة، فإن السياسة الاقتصادية (المالية والنقدية) تعني في المقام الأول التوجه الرئيسي للمستوي العام للأسعار (أي معدل التضخم)، الذي تراجع بوضوح في السنتين الأخيرتين، الأمر الذي يمكن أن يبعث الطمأنينة لدي المستهلكين والمستثمرين علي حد سواء. أما ثاني تحليل للمثال السابق فهو يرتبط بأسباب انخفاض معدل التضخم السنوي وتتمثل واقعيا وحسابيا في استمرار الانخفاض في مستوي الأسعار شهرياً. والدلالة هنا أيضاً وأن المستوي العام للأسعار في ديسمبر 2010 أقل من مستواه في نوفمبر السابق عليه، ب0.7٪ كما انخفض في نوفمبر عن أكتوبر 2010 بنسبة 0.8٪، وهذه التغيرات الشهرية تلخص حركة اسعار السلع المختلفة فارتفعت أسعار بعضها وانخفض أسعار البعض الآخر، ولكن المتوسط العام للأسعار الذي يقيس تكلفة المعيشة انخفض من شهر لآخر. والواقع أن دلالة هذه التغيرات أكثر عمقاً وأهمية من الأرقام التي ترد في بعض التقارير الصحفية التي تنشر في الصحف عن الزيادة السنوية المطلقة في أسعار بعض السلع الهامة. فهذه البيانات ذاتها تشير إلي الاتجاه النزولي المستمر سواء بالنسبة للمستوي العام لأسعار كل السلع، أو متوسط أسعار المجموعة السلعية للطعام والشراب. غير ان الأكثر أهمية هو أن معدل التغير الشهري في أسعار مجموعة »الطعام والشراب« لم يأخذ في الانخفاض فقط، بل أصبح سالباً في الشهور الثلاثة الأخيرة، أي أن متوسط أسعار هذه السلع أصبح أقل شهراً بعد الآخر. ولا يخفي الأثر الإيجابي لهذا الانخفاض علي مستوي معيشة الأسر الفقيرة أو متوسطة الدخل، الذي يستوعب الإنفاق علي السلع الغذائية نسبة كبيرة من ميزانيتها. وفي النهاية فإن معدلات التضخم هي مشكلة اقتصادية نعمل علي حلها ونستهدف أن يواصل تراجعه إلي مستوي يقل عن 7٪ خلال العام المالي الحالي، ولذلك نحن نحتاج للفهم الدقيق ووضوح البيانات الاحصائية في نشرها في الصحف، لأن الأرقام قد تلعب دوراً معاكساً عن مغزاها ودلالتها الحقيقية فالدقة في نشرها يساعد في رصد وتقييم الأداء الاقتصادي، ووضع السياسات، ورسم صورة للحياة الاقتصادية دون رتوش أو ظلال »رمادية«.