استعرضت في الاسبوع الماضي السببين الثاني والثالث لتفاؤلي بمستقبل مصر، وهما ثقتي في قدرات الإنسان المصري، ثم التقدم الذي حدث في المسار السياسي علي طريق استكمال المؤسسات الديمقراطية رغم كل العقبات، فيما يتمثل بالمشاركة الشعبية الواسعة في الانتخابات البرلمانية ووصول أول رئيس مصري منتخب للسلطة وإصدار الدستور الجديد ثم الانتقال السلس من الحكم العسكري (والذي يطالب البعض بالعودة إليه للأسف) إلي الحكم المدني الكامل، وشرحت القيمة الكبيرة لهذه الخطوات علي الرغم من عدم رضا البعض عنها. ولكي يشعر القارئ الكريم بأهمية هذه الخطوات الحاسمة فإنه يمكنه أن يقارن ذلك بالوضع الحالي في بلدان الربيع العربي الاخري مثل تونس وليبيا، ففي تونس يكاد يمر عام ونصف العام علي عمل الجمعية الوطنية التأسيسية دون الوصول إلي توافق حول مسودة الدستور، ودون وجود رئيس جمهورية منتخب انتخاباً حراً، ويبدو أنه مازال هناك الكثير من الوقت لإنجاز هذه المهام في ضوء تشتت الجمعية الوطنية بين المهام التشريعية والمهام التأسيسية لكتابة الدستور، وكذلك في ضوء الاستقطاب الذي يفوق كثيراً ما نراه علي الساحة المصرية. أما في ليبيا فالموقف أكثر تعقيداً في ضوء انتشار الكتائب المسلحة، وانتشار السلاح في يد أفراد الشعب العادي ايضاً، مع غياب المؤسسات المنظمة التي تؤدي مهام الدولة وتقوم علي إدارتها، وكذلك عدم حدوث أي تقدم علي طريق انجاز دستور جديد. وغني عن البيان ما يعانيه الشعب السوري الشقيق في سعيه للتحول نحو الديمقراطية والتخلص من الاستبداد. وقد اتضح من جميع التجارب المماثلة أن إطالة أمد المراحل الانتقالية في أعقاب التغيرات الكبري يؤثر سلبا علي عمليات التنمية لما يصاحبها من عدم استقرار سياسي وانفلات أمني وفراغ تشريعي مما يجعل بذل كل الجهد لتقصير أمد هذه المراحل الانتقالية أولوية قصوي في مثل هذه الظروف.ومن هنا فأنا أري بكل ارتياح أن مصر قد تقدمت خطوات كثيرة مقارنة بدول الربيع العربي الأخري، التي تواجه ونواجه معها حرباً ضروساً من بقايا النظم السابقة، وعدد من القوي الاقليمية والدولية في نفس الوقت ، والتي تتبع استراتيجية واضحة ترتكز علي دعامتين رئيسيتين لإفشال المسار الثوري، وهما السعي لتأخير استكمال الاستحقاق الديمقراطي علي جانب، والسعي لافشال مؤسسات الحكم التي تنتمي للثورة ونزع الشرعية عن المؤسسات المنتخبة علي الجانب الآخر، وذلك أملاً في أن تكفر الشعوب بثوراتها، وتحن إلي العهد القديم الملئ بالفساد والظلم ، سعياً وراء "استقرار" مزعوم لم تجني بلادنا من ورائه إلا الخراب ، ولكن هيهات، فإن شعوبنا وفي مقدمتها الشعب المصري العظيم، لا يمكن أن تقبل بهذا أبدا. وقد بقي لنا في مصر استحقاق واحد علي طريق استكمال المؤسسات الديمقراطية، يتمثل في الانتخابات البرلمانية المقبلة، التي ستضعنا علي بداية الطريق لتجاوز الصعاب والمحن والانطلاق نحو المستقبل علي أسس جديدة بإذن الله بعد الانتهاء من المرحلة الانتقالية المضطربة، مع الاعتراف بأن هناك الكثير من الخطوات التي يجب اتخاذها، أغلبية ومعارضة (لعلي أعود إليها في مقال قادم) لدعم هذا المسار الديمقراطي الذي لا بديل عنه حتي نصل ببلدنا إلي بر الأمان، وكل هذا يدعوني إلي التفاؤل بالمستقبل. انتقل للسبب الرابع لتفاؤلي وهو ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، رغم ما يراه البعض من أن الوضع الاقتصادي قد أصبح بالغ السوء وصرنا علي شفا الإفلاس، وقد تبخرت أحلامنا في التنمية والتقدم بعد هذه الثورة المجيدة، فهل هذا صحيح؟ ابدأ بالإقرار بأن الاقتصاد يمر بأزمة حقيقية ولكن ليس لدرجة الإفلاس الوشيك، فالأمم العريقة لا تفلس (تذكر مثلا بريطانيا في بداية حكم تاتشر عندما بلغت نسبة البطالة 15٪ ونسبة التضخم 22٪ وكانت الخدمات منهارة في كل شئ، واستطاعت بريطانيا تحقيق معجزة اقتصادية في غضون 8 سنوات، ونحن بدون شك لم نقترب من حالة الاقتصاد السيئة في بلدان مثل اليونان وإسبانيا وغيرهما) وينبغي ألا ننسي أن ثلاثين عاماً من الفساد والاستبداد قد خلفت تركة ثقيلة مضنية، وما ترتب علي ذلك من فقر جاوز 43٪ وبطالة مركبة حرمت أربعة ملايين شاب من فرصة عمل كريمة، وديون عامة بلغت 1350 مليار جنيه كلفت الدولة هذا العام وحده حوالي 239 مليارا فوائد وأقساطا للديون هذا بخلاف العجز المزمن بالموازنة العامة، والبنية الأساسية المتهالكة والفساد الذي ينخر كالسوس في جسد المجتمع الذي عصفت به الأمراض والتلوث والأزمات. وأدرك جيداً أننا حتي الآن نستهلك أكثر مما ننتج، ونستورد أكثر مما نصدر، وندخر أقل مما يجب أن نستثمر، وهذه هي أزمتنا الحقيقية التي خلفتها عصور التسلط والطغيان . ولكني مع كل هذا متفائل جداً لأن أولي دعائم الخروج من هذه الحالة هي الحرية واستعادة الإنسان إحساسه بكرامته وقدرته علي تحقيق حلمه من خلال اختياره الحر لقيادة تتوافر لها الإرادة السياسية والقرار المستقل، قادر علي نقدها ومحاسبتها، وهذا هو أهم ما تحقق حتي الآن، وبعد ذلك فإذا نظرنا للمقومات المادية، نجد أن مصر لديها منه مخزون وفير حيث تمتلك موقعاً جغرافياً فريداً يجعلها نقطة التقاء قارات الدنيا، وثروة بشرية شابة فتية (أكثر من 70٪ من الشعب المصري من الشباب) قادرة علي اقتحام اقتصاد المعرفة الذي يحقق أكبر قيمة مضافة في الاقتصاديات الحديثة ، وثروة معدنية مخزونة في باطن الأرض وظاهرها تنتظر أن تبوح بسرها للعاملين الجادين (أذكر منها فقط علي سبيل المثال الرمال السوداء المتواجدة بكثرة في كفر الشيخ والتي تحتوي علي نسب عالية من المعادن والغازات المستخدمة في صناعات التكنولوجيا المتقدمة، والحجر الكلسي الذي يتمتع بدرجة نقاوة عالية في سمالوط و الملح الصخري المتوافر بكثرة في منطقة منخفض القطارة وسيوة والاحتياطيات الهائلة من الفوسفات في أبو طرطور والصحراء الشرقية.. وغير ذلك الكثير)، وقطاعات اقتصادية عريضة متنوعة من زراعة وصناعات تحويلية واستخراجية ونقل ولوجستيات وغيرها الكثير، مع توافر مصادر الطاقة النظيفة المتجددة من شمس ورياح (تقع مصر في أفضل مناطق نطاق الحزام الشمسي حيث تتراوح شدة الإشعاع الشمسي المباشر بين 2000 ك.و.س/ م 2/ سنة شمالاً - 3000 ك.و.س / م 2/ سنة جنوباً وهو أعلي معدل تشميس في العالم، بينما تتراوح ساعات السطوع الشمسي بين 9 - 11 ساعة يومياً). كما لا يمكننا تجاهل أن الجزء الأكبر من الاقتصاد المصري مازال خارج النطاق الرسمي ويمكن توجيهه لمشروع قومي كبير للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر يقضي علي الفقر ويحيل الملايين من فقراء وأميين ومن مستهلكين إلي طاقة إنتاجية جبارة قادرة علي أن تنقل صناعاتهم الصغيرة إلي سلع تغزو أسواق الدنيا، ونحن لسنا أقل من ماليزيا وتركيا والبرازيل وغيرها ممن حققوا نهضتهم في أقل من عشر سنوات وأصبح اقتصادهم ضمن أكبر عشرين إقتصادا عالميا، رغم أنهم انطلقوا من أوضاع أسوأ بكثير مما نحن عليه اليوم. وقد يسأل سائل، من أين لنا بالتمويل الذي يمكن أن يحقق طموحاتنا التنموية الضخمة؟ هناك بعض الأرقام المهمة في هذا الصدد، فالمصريون يمتلكون مالايقل عن 150 مليار دولار خارج مصر (من غير الأموال المهربة) وعندما تستقر الأوضاع ستعود أكثر هذه الأموال إلي بيتها الأصيل، كما أن العرب يمتلكون ما لايقل عن 3 تريليونات دولار أمريكي لاتجد ملاذا آمنا لاستثمارها خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتوالي الأزمات المالية التي أكلت الكثير من هذه الأموال، وعندما تستقر الأوضاع في مصر وتتوافر لدينا المصرفية الاسلامية وأدوات التمويل الإسلامي ستتجه نسبة كبيرة من هذه الإستثمارات إلي مصر، هذا بالإضافة الي محدودية فرص النمو في دول العالم المتقدم في ضوء الأزمة المالية العالمية مما يجعل الاستثمار في البلاد الواعدة اقتصاديا مثل مصر ذا جدوي عالية. وقد أعلن بنك إتش إس بي سي في دراسة حديثة مهمة أن الاقتصاد المصري سيصبح واحدا من أكبر الاقتصاديات نمواً في العالم خلال سبع سنوات وهو ما يدفع الكثير من كبري البنوك ومؤسسات التمويل الدولية إلي الاستعداد لحجز موطئ قدم لها في مصر. إن مئات المليارات التي جمدها المصريون خلال العقود الماضيه في أراض وشقق غير مستغلة كمخزن للقيمة نظراً لعدم وجود شفافية وسوق استثمار آمن يستوعبها يمكن أن يتم تعبئة أضعافها في استثمارات حقيقية لتحقيق النمو المنشود، ولعل قانون الصكوك الذي يوشك أن يصدر يمكن من خلاله توفير الكثير من الأدوات المبتكرة التي تسهل ضخ استثمارات ضخمة تسهم في دفع المشاريع التنموية المختلفة. وكلي ثقة في أن استكمال المؤسسات الديمقراطية بعد انتخاب مجلس النواب وتشكيل حكومة تعبر عن الإرادة الشعبية من خلال الانتخابات أيا كانت نتائجها، سيهيئ البيئة المناسبة لإطلاق جميع الطاقات التنموية، خاصة إذا تمكن الشعب المصري من عزل من يعبثون في استقرار الوطن ويسعون لإثارة الفوضي، ويهدمون ولا يبنون، بحيث يتم استعادة الأمن والأمان اللازم لتهيئة المناخ الملائم للعمل والاستثمار. واستكمل أسباب التفاؤل في مقالي الأخير من هذه السلسلة الأسبوع المقبل بإذن الله.