«العمل» تحرر 6185 محضرًا بتراخيص عمل الأجانب خلال 22 يومًا    انتخابات مجلس النواب.. أسماء محافظات المرحلة الثانية    جامعة قناة السويس تشارك في معرض تراثنا الدولي (صور)    أسعار الخضروات اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025 بأسواق الأقصر    سعر الذهب اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025 وعيار 21 للبيع.. خبير يكشف توقعات الفترة المقبلة    مساء اليوم.. الجيزة تعلن قطع المياه 6 ساعات عن هذه المناطق (تفاصيل)    الفيدرالي الأمريكي والإغلاق الحكومي، هل تتغير قواعد اللعبة بعد تهديد ترامب؟    وزير الزراعة: لا تهاون مع المتلاعبين بالأسمدة.. ووقف الدعم في هذه الحالة    تكريم الشركات المصرية المساهمة في صيانة "كيما" بحضور وزير قطاع الأعمال    «اعتقدنا أنه هجوم نووي».. انفجار مصفاة نفط يثير الرعب في لوس أنجلوس (صور)    جيش الاحتلال ينشئ موقعا عسكريا قرب شارع الرشيد بمدينة غزة    أول تعليق من الفصائل الفلسطينية حول خطة ترامب    سلوت يثير الجدل بشأن إصابة نجم ليفربول.. ويكشف موقف إيكيتيكي    كرة القدم النسائية، الأهلي يواجه فريق مسار في بطولة الدوري اليوم    بوستيكوجلو: لا يمكنني التحكم في رأي الجماهير بشأن المطالبة بإقالتي    مصرع شخصين وإصابة آخر في انقلاب سيارة بطريق رأس غارب- الغردقة    مخرج «استنساخ»: سامح حسين مغامر واعتبره رمزًا تأثرت به كثيرًا    وعكة صحية تضرب محمد زيدان، تعرف على التفاصيل    أفضل الأعمال المستحبة في يوم الجمعة.. الإفتاء توضح    استشاري تغذية علاجية: الأضرار المحتملة من اللبن تنحصر في حالتين فقط    فوائد السمك للطفل الرضيع وشروط تقديمه    طارق الشناوي يشيد بفيلم «فيها إيه يعني»: مختلف وجريء.. يُبكيك ويُضحكك    غدًا.. استكمال محاكمة سارة خليفة و27 متهمًا بتخليق المواد المخدرة وتصنيعها    مواعيد مباريات الجمعة 3 أكتوبر.. البنك الأهلي ضد المصري والدوري الإنجليزي    الصين تدعو لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    الزمالك يختتم تدريباته اليوم استعدادًا لمواجهة غزل المحلة    أحمد ربيع يقترب من الظهور الأول مع الزمالك    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 3-10-2025 في محافظة قنا    إسرائيل تستهدف منظومة دفاعية لحزب الله في جنوب لبنان    بريطانيا..مقتل 2 وإصابة 4 في هجوم دهس وطعن خارج كنيس يهودي    هل تتحقق توقعات ليلى عبد اللطيف بثراء 4 أبراج فى أواخر عام 2025؟    بوتين يحذر أمريكا من تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك    القنوات الناقلة مباشر لمباراة مصر ضد تشيلي في كأس العالم للشباب 2025    موعد شهر رمضان 2026 .. تعرف على غرة الشهر الكريم وعدد أيام الصيام    ليلى علوي تنهار من البكاء خلال مهرجان الإسكندرية.. اعرف التفاصيل    تصريح صادم من سماح أنور عن المخرجة كاملة أبو ذكري    محافظ الإسكندرية عن التكدسات المرورية: المواطن خط أحمر ولن نسمح بتعطيل مصالحه    القبض على المتهم بالشروع فى قتل صاحب محل بالوراق    «كوكا حطه في جيبه».. أحمد بلال ينتقد بيزيرا بعد مباراة القمة (فيديو)    استشهاد شاب فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    رياض الخولي أثناء تكريمه في مهرجان الإسكندرية السينمائي: "أول مرة أحضر مهرجان .. وسعيد بتكريمي وأنا على قيد الحياة"    سورة الكهف يوم الجمعة: نور وطمأنينة وحماية من فتنة الدجال    الشاعر مصطفى حدوتة بعد ترشح أغنيته للجرامي: حدث تاريخي.. أول ترشيح مصري منذ 20 عامًا    نائب محافظ سوهاج يكرم 700 طالب و24 حافظًا للقرآن الكريم بشطورة    مختار نوح: يجب محاسبة محمد حسان على دعواته للجهاد في سوريا    مدرسة المشاغبين، قرار صارم من محافظ القليوبية في واقعة ضرب معلم لزميله داخل مكتب مدير المدرسة    اللجنة النقابية تكشف حقيقة بيان الصفحة الرسمية بشأن تطبيق الحد الأدنى للأجور    بالصور.. مصرع طفلة وإصابة سيدتين في انهيار سقف منزل بالإسكندرية    انتداب المعمل الجنائي لفحص حريق مخزن وشقة سكنية بالخانكة    حزب الإصلاح والنهضة يدشّن حملته الانتخابية للنواب 2025 باستعراض استراتيجيته الدعائية والتنظيمية    نائب محافظ سوهاج يكرم 700 طالب و24 حافظًا للقرآن الكريم بشطورة| فيديو وصور    أتربة عالقة في الأجواء .. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025    «هيدوب في بوقك».. طريقة سهلة لعمل الليمون المخلل في البيت    ضيفي ملعقة «فلفل أسود» داخل الغسالة ولاحظي ماذا يحدث لملابسك    انفصال 4 عربات من قطار بضائع بسوهاج    أسعار الخضروات في أسيوط اليوم الجمعة 3102025    منافسة ساخنة على لوحة سيارة مميزة "ص أ ص - 666" والسعر يصل 1.4 مليون جنيه    الكويت تدخل موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية بأطول جراحة روبوتية عابرة للقارات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديث في الثقافة
تأمّلاتٌ في التّعايُش السّلميّ

أودُّ أن تكونَ تأمُّلاتي هذه حُرةً طليقةً مِن قيودِ البحثِ الأكاديميِّ، وذلك كي أُفيدَ بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ مِن تلاقُحِ الأفكارِ وتبادُلِ الرُّؤَي واختلافِ وِجهاتِ النظرِ، فما أقولُه هنا هو مِن منظورِ رُؤيتي كرُجلٍ تعلَّمَ ودَرسَ وشَبَّ وشابَ في الأزهرِ جامعًا وجامعةً، واهتمَّ منذُ زمنٍ بعيدٍ بأمرِ عَلاقةِ الاحترامِ المُتبادَلِ بين الإسلامِ والأديانِ عمومًا، وبخاصةٍ الأديانَ السماويةَ، وعلي وجهٍ أخصَّ الدِّينَ المسيحيَّ والإخوةَ المسيحيّينَ؛ والذين يُذكِّرُنا القرآنُ الكريمُ صباحَ مساءَ بأنَّهم أقربُ الناسِ مودةً للمسلمين.
واسمحوا في بِدايةِ تأمُّلاتي أن أُذكِّرَ ببدَهيةٍ مِن البَدَهيّاتِ، ما أظُنُّ أنَّها تحتاجُ في أمرِ إثباتِها إلي أكثرَ مِن لَفْتِ النظرِ إليها، هذه البديهيةُ هي:
إنَّه لا يستقيمُ في منطقِ العقلِ أن أُحاكِم دِينًا مِن الأديانِ بجرائمِ المؤمنين بهذا الدين أو ذاك، وتخرُجُ علي ما تُقرِّرُه دعوةُ الأديانِ وأصولُها وثوابتُها، وإلَّا اختلطتِ الأوراقُ في أيدينا منذُ البدايةِ، وأصبحنا لا ندري هل نتحدَّثُ عن دِينٍ وعن مؤمنينَ بهذا الدِّينِ، أو نتحدَّثُ عن قِلَّةٍ مُجرِمةٍ تُنفِّذُ جرائمَها أحيانا بمُسَوِّغ دينيّ. ومِن هذا المُنطلَقِ فإنَّه لو صحَّ أن يُنسَبَ الإسلامُ إلي العُنفِ بسببِ ما تَقترفُه قِلةٌ قليلةٌ، فإنَّه يصِحُّ وبالمنطقِ نفسِه أن تُنسَبَ المسيحيةُ واليهوديةُ إلي الإرهابِ بسببِ ما اقترَفَته الحروبُ الصليبيةُ في العصورِ الوُسطي، وما تقترفُه الصهيونيةُ العالميةُ في عصرِنا هذا.
إنَّ المسلمينَ يرفُضونَ هذا المَنطقَ ويُنكرونه أشدَّ الإنكارِ، ولم يحدُثْ أبدًا في تاريخِ المسلمينَ أن خَلَطوا بينَ الأديانِ وتُجَّارِ الأديانِ في سُوقِ السياساتِ وبُورصةِ المصالحِ، والتاريخُ يُحدِّثُنا أنَّ المسلمينَ دَفَعوا ثمنًا فادحًا مِن دمائِهم وأنفسِهم وأموالِهم وأراضيهم لمقاومةِ الغزواتِ التي كانت تحمِلُ الصليبَ، ومع ذلك لم يجرؤْ مُؤرِّخٌ مُسلمٌ واحدٌ ولا عالِمٌ ولا مُفكِّرٌ أن يفتَحَ فمَه بكلمةٍ واحدةٍ تسيءُ إلي المسيحيةِ كدِينٍ، أو تَمَسُّ المسيحَ - عليه السلامُ - مِن قريبٍ أو مِن بعيدٍ، ونفسُ الشيءِ يُقالُ علي موقفِ المسلمين الآنَ مِن الدِّيانةِ اليهوديةِ، ومِن تكريمِ رسولِها الكريمِ موسي.
وتَعلمونَ أنَّ هذا الموقفَ الموضوعيَّ مِن جانبِ المسلمِ أمرٌ تُمليه عليه عقيدتُه الإسلاميةُ، فلا خِيارَ للمسلمِ في احترامِ المسيحيةِ واليهوديةِ كدِيانَتَينِ سماويتَينِ، وفي عدمِ المَساسِ بأيٍّ مِن الديانَتَينِ ولو بخاطرةٍ مِن خَطَراتِ نفسِه، وإلَّا أصبحَ في مَهبِّ الرِّيحِ وانتفي عنه وَصفُ الإسلامِ.
الإيمان بالديانات السماوية:
ومِن هذا المنطلقِ ينشأُ المسلمُ علي الاعتقادِ بأنَّ الإيمانَ بمحمدٍ يَستلزِمُ بالضرورةِ الإيمانَ بعيسي وموسي وإبراهيمَ وجميعِ الأنبياءِ والمرسلين منذُ بَدءِ الخليقةِ وإلي النبيِّ الخاتَمِ محمدٍ وأنَّ الإيمانَ بالقرآنِ يَستلزمُ الإيمانَ بالإنجيلِ والتوراةِ، والمسلمُ في كلِّ ذلك لا ينطلِقُ مِن مَعني المجاملةِ أو التودُّدِ لإخوانِه- المسيحيينَ واليهودِ، فالمسألةُ عنده أعقدُ وأخطرُ مِن ذلك.
إنَّها مسألةُ الإيمانِ بالإسلامِ نفسِه أولًا وقبل كلِّ شيءٍ، وإذا كان الإيمانُ بالمسيحيةِ واليهوديةِ جُزءًا ثابتًا في مفهومِ الإيمانِ بالإسلامِ، فإنَّ جحودَ أيٍّ منهما هو جحودٌ بالإسلامِ ذاتِه وكُفرٌ به؛ حتَّي شريعةُ الإسلامِ هي في كثيرٍ مِن وجوهِها نفسُ الشرائعِ السابقةِ، ونحن نحفظُ مِن عِلمِ الأصولِ القاعدةَ المشهورةِ:
(شرعُ مَن قبلَنا شرعٌ لنا ما لم يرِدْ ناسخٌ )
ونحن المسلمين نعتقدُ أنَّ التوراةَ كتابُ اللهِ، وأنَّ الإنجيلَ كتابُ اللهِ، وأنَّهما هُدًي ونورٌ للناسِ، وقد تعجبونَ لو قلتُ إنَّ كثيرًا مِن فُقهاءِ الإسلامِ يُقرِّرونَ: أنَّه إذا كان لا يجوزُ للمسلمِ أن يَمسَّ القرآنَ وهو جُنُبٌ، وكذلك المسلمةُ الحائضُ، فإنَّه لا يجوزُ لأيٍّ منهما أن يَمَسَّ التوراةَ أو الإنجيلَ حتَّي يَغتسلَ.
تأصيل المودة بين المسلمين والمسيحيين:
إذا انتقلنا إلي القرآنِ وجدناه شديدَ الوضوحِ في تأصيلِ عَلاقةِ الإخاءِ بين المسلمينَ والمسيحيينَ، وفي ابتناءِ هذه العَلاقةِ علي أصلِ المودةِ (المحبةِ)، وهذا ما عبَّر عنه الوَحْيُ الإلهيُّ الذي نَزلَ علي قلبِ محمدٍ بقولِه تعالي:
»وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَي ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَي الرَّسُولِ تَرَي أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ« ( المائدة : 82- 83).
ونجدُ في القرآنِ حديثًا عذبًا جميلًا عن سيِّدِنا عيسي وهو في مَنظورِ القرآنِ مع أمِّه مريمَ عليها السلامُ آيةً مِن آياتِ اللهِ الكُبري:
»وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَي رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِين « (المؤمنون : 50)
وفي القرآنِ حديثٌ رائعٌ وتصويرٌ شجيٌّ لآلامِ السيدةِ مريمَ ومُعاناتِها، وفيه سورةٌ كاملةٌ تُسمَّي سورةَ مريمَ، بَينَما لا نَجِدُ فيه سُورةٍ سُمِّيتْ باسمِ زوجةٍ مِن زوجاتِ النبيِّ محمدٍ ولا ابنةٍ مِن بناتِه.
وفي القرآنِ سُورةٌ مِن أوائلِ ما نزلَ مِن السُّورِ المكيةِ تُسمَّي سُورةَ البروجِ (سورة رقم 85) تضمَّنَت مَدحًا لنصاري نجرانَ وثناءً عليهم، وهم يُفضِّلون الموتَ حرقًا علي تركِ إيمانِهم باللهِ العزيزِ الحميدِ كما يقولُ القرآنُ.
وفي القرآنِ سُورةٌ أخري مكيةٌ أيضًا تُسمَّي سُورةَ (الرُّومِ) تُصوِّرُ الآياتُ الأولي فيها تعاطُفَ الإسلامِ مع المسيحيينَ الرُّومِ في هزيمتِهم أمامَ المجوسِ (الفُرسِ). وقد فَرِحَ أهلُ مكةَ بانتصارِ الوثنيةِ علي الإيمانِ وعيَّروا المسلمين بهزيمةِ الرُّومِ، وحين ضاقَ المسلمون بذلك طمأَنَهم النبيُّ وقالَ لهم : »أمَا إنَّهم (الرُّومُ) سيُغلَبونَ« ثمَّ نزلَ القرآنُ ليُؤكِّدَ أنَّ الرُّومَ سيَغلِبونَ الفُرسَ في بِضعِ سنواتٍ، ويومَها سيَفرَحُ المؤمنون» مِن الرُّومِ والمسلمين« بنصرِ اللهِ، وتحقَّقَ وَعدُ اللهِ بانتصارِ الرُّومِ علي الفُرسِ.
ولا يَخفي هنا تصويرُ القرآنِ للمسلمينَ والرُّومِ وكأنَّهم أقرباءُ تَربِطُ بينهم وشائجُ القُربَي والمودةِ.
هجرة المسلمين للمسيحيين
ونودُّ أن نُبيِّنَ أنَّ هذه العَلاقةَ الحميمةَ التي يُؤكِّدُ عليها الإسلامُ بين أتباعِه وبين المسيحيينَ؛ ليست أمرًا مُصطنعًا فَرضَته العَلاقاتُ السياسيةُ أو الرغبةُ في إقرارِ حُسنِ الجِوارِ، بل هي أصلٌ مِن أصولِ هذا الدِّينِ وثابتٌ مِن ثوابتِه التي لا تتبدَّلُ بتبدُّلِ الأحوالِ والظروفِ .
والدليلُ علي ذلك: هجرةُ المسلمينَ الأوائلِ إلي الحبشةِ المسيحيةِ ومَلِكِها المسيحيِّ، وطلبُ الأمانِ في ظِلالِه فرارًا مِن أذي قُريَشٍ واضطهادِهم وتعذيبِهم، ولم يأتَمنِ النبيُّ محمد دولةً ولا مَلِكًا آخرَ علي هؤلاءِ المؤمنينَ غيرَ هذا المَلِكِ المسيحيِّ، ولذلك لم يَلبَثْ أن قالَ لهؤلاءِ المُستضعَفِينَ: (إنَّ بأرضِ الحبشةِ مَلِكاً لا يُظلَمُ أحدٌ عنده، فالحَقوا ببلادِه حتَّي يَجعلَ اللهُ لكم فَرجًا ومَخرجًا ممَّا أنتم فيه) والغريبُ أنَّ المسلمينَ الأوائلَ هاجروا إلي هذا المَلِكِ المسيحيِّ مرَّتَينِ، وكان مِن بين المهاجراتِ ابنةُ النبيِّ وزوجُها.
إنَّ هذه الهجرةَ المتكرِّرةَ ليست في واقعِ الأمرِ إلَّا تطبيقًا عمليًّا للأصولِ القرآنيةِ التي عَرضنا جانبًا منها، وهي تَعكِسُ مدي ثِقةِ النبيِّ في أتباعِ سيِّدِنا عيسي وكيف أنَّه كان ينظُرُ إليهم كما ينظُرُ الشقيقُ إلي أشقائِه وقتَ الشدَّةِ، كما تُجسِّدُ مشاعرَ الوُدِّ والنُبلِ التي كان يَجيشُ بها صدرُ هذا المَلِكِ الكريمِ تُجاهَ المسلمينَ، وبصورةٍ عبَّرت عنها السيدةُ أمُّ سلمةَ إحدي المهاجراتِ بعبارةٍ تَفيضُ وفاءً وعِرفانًا بالجميلِ، قالت فيها : »فخَرَجنا إليها بلاد الحبشة- حتَّي اجتمعنا بها، فنَزَلنا بخيرِ دارٍ إلي خيرِ جارٍ، أمَّنَنا علي دينِنا ولم نخشَ منه ظُلمًا«.
ومَظهرٌ آخرُ يلتقي فيه الإسلامُ مع المسيحيةِ جنبًا إلي جنبٍ في قلبِ مسجدِ النبيِّ وذلك حين جاءه نَصارَي نجرانَ مِن اليمنِ في وفدٍ ضمَّ 60 رجلًا ليُحاوروه في أمرِ الإسلامِ، فاستضافَهم النبيُّ في مسجدِه بالمدينةِ، وقد تصادَفَ مرَّةً أن تَزامنَ وقتُ صلاتِهم مع صلاةِ العصرِ للمسلمينَ، فقالوا للنبيِّ: (يا محمدُ، إنَّ هذا وقتُ صلاتِنا، وإنَّا نريدُ أن نُؤدِّيَها، فقال لهم: دُونكم هذا الجانبَ مِن المسجدِ، صلُّوا فيه).
وهكذا أُقيمت صلاةُ المسلمين خَلْفَ النبيِّ في جانبٍ مِن المسجدِ، وأُقيمت إلي جِوارِهم صلاةُ المسيحيينَ في الجانبِ الآخرِ مِن المسجدِ نفسِه، وتُشكِّلُ هذه الحادثةُ الأصلَ التشريعيَّ الذي يستندُ إليه الفُقهاءُ الذين يُجيزونَ لغيرِ المسلمينَ أن يُمارسوا عِبادتَهم في مساجدِ المسلمينَ.
ومَلمحٌ آخرُ وليس أخيرًا يتضِحُ فيه انفتاحُ الإسلامِ علي المسيحيةِ وعلي اليهوديةِ، يتمثَّلُ هذه المرَّةُ في اكتسابِ المسلمِ حقًّا شرعيًّا في الاقترانِ بزوجةٍ مسيحيةٍ أو يهوديةٍ تَبقَي علي دِينِها، وتكونُ شريكةَ حياتِه وأمَّ أولادِه وسيدةَ منزلِه، وكلُّنا يعلَمُ عاطفةَ الحنانِ والحبِّ والإيثارِ علي النفسِ المُتبادَلةَ بين الزوجَينِ، وأنَّه بمُقتضي هذا الحقِّ الشرعيِّ لا حَرجَ علي المسلمِ أن يَحتفظَ بما استطاعَ مِن هذه العواطفِ النبيلةِ ليُبادِلَ بها شريكةَ حياتِه المسيحيةَ أو اليهوديةَ.
انفتاحِ الإسلامِ علي الأديانِ الأُخري
إنَّ الإسلامَ دِينٌ يَعي جيدًا أنَّه حَلْقةٌ أخيرةٌ في سِلسلةِ الأديانِ، وأنَّه يَحتضِنُ الأديانَ الإلهيةَ السابقةَ عليه، ويُبشِّرُ بما بشَّرَت به مِن أصولِ العقائدِ ومكارمِ الأخلاقِ، وأنَّ أواصرَ قُربي ووشائجَ رَحمٍ تَربِطُ رسالةَ الإسلامِ برسالاتِ عيسي وموسي وإبراهيمَ ونوحٍ - عليهم جميعًا أفضلُ الصلاةِ والسلامِ. واقرؤوا معي إن شِئتُم خِطابَ القرآنِ للمسلمينَ وهو يُقعِّدُ لهم هذا الأصلَ الذي لا يهتزُّ يمينًا ولا يسارًا:
» شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ« [الشوري: 13
وأيضًا تصويرُ محمدٍ لهذه الآصِرَّةِ المشتركةِ الَّتي تَربِطُ بين دعوتِه ودعوةِ إخوتِه مِن الأنبياءِ والمرسلينَ في عبارتِه الَّتي تَفيضُ روعةً وجمالًا، إذ يقولُ: (أنا أَوْلَي الناسِ بعيسي بنِ مريمَ في الدنيا والآخرةِ، والأنبياءُ إخوةٌ لعَلَّاتٍ، أمهاتُهم شتَّي، ودِينُهم واحدٌ).
وهذه الأصولُ هي مِن وراءِ انفتاحِ الإسلامِ علي الأديانِ الأُخري واحتفائِه بها، واحترامِ أتباعِها، وإقرارِهم علي عقائدِهم؛ حتَّي لو كانت تختلِفُ مع منظورِ الإسلامِ لهذه العقائدِ.
حماية المسلمين لغير المسلمين:
والحديثُ عن مَسئوليةِ الدولةِ الإسلاميةِ وحمايةُ أهلِ الأديانِ الأخري وتأمينُهم وتأمينُ حُريتِهم الدينيةِ حريةً كاملةً يَحتاجُ لكتابٍ مُستقِلٍّ، ويكفي أن أُشيرَ هنا فقط إلي أنَّ أوّلَ آيةٍ نزلت في القرآنِ تأذَنُ للمُسلمينَ بالقتالِ هي قولُه تعالي:
»أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَي نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ « (الحج: 3904)
وقد أُذِنَ في هذه الآيةِ بالقتالِ بعد ما نُهِيَ عنه في نيِّفٍ وسبعينَ آيةً، فقد كان أصحابُ النبيِّ يأتونَ إليه طُوالَ العهدِ المكيِّ مِن بين مضروبٍ ومشجوجٍ يتظلَّمون إليه، فيقولُ لهم: (اصبِرُوا فإنِّي لم أُومَرْ بقتالٍ) حتَّي هاجرَ فأنزلَ اللهُ عليه هذه الآيةَ.
وفي ضوءِ هذه الآيةِ يتضحُ تحديدًا ذ أنَّ أولَ أسبابِ مشروعيةِ القتالِ في الإسلامِ: نُصرةُ المظلومينَ ودفعُ الظلمِ عنهم، وتمكينُهم مِن حقِّهم في حياةٍ آمنةٍ مثلَ غيرِهم، وهو مَطلبٌ لا يعرِضُ للعقلِ المستقيمِ أن يتنكَّرَ له أو يرتابَ في مشروعيتِه في يومٍ ما مِن الأيامِ.
كما يتضحُ أيضًا أنَّ الحربَ في هذا النصِّ الإلهيِّ مشروعةٌ للدفاعِ ليس عن الإسلامِ وحدَه، بل عن كلِّ الأديانِ السماويةِ ضدَّ عُدوانِ الشركِ والمشركينَ . ومَّما يعجَبُ له كلُّ باحثٍ في هذه الآيةِ الكريمةِ وكائنًا ما كان دِينُه أو مذهبُه - أنَّ سببَ مشروعيةِ القتالِ في هذه الآيةِ؛ ليس هو تأمين الدفاعِ عن المساجدِ فقط، بل هو أيضًا لتأمينِ الدفاعِ عن صوامعِ الرُّهبانِ، وكنائسِ المسيحيينَ واليهودِ، وإن تَعجَبْ فاعجَبْ لدِينٍ يُغري أتباعَه بالقتالِ مِن أجلِ تأمينِ بقاءِ الأديانِ الأخري، وأنا هنا أردِّدُ ما قالَه ابنُ عباسٍ - رضِي اللهُ عنهما - منذُ أربعةَ عشرَ قرنًا وهو يُفسِّرُ هذه الآيةَ حيثُ قالَ: (يَدفعُ اللهُ بدِينِ الإسلامِ وبأهلِه عن أهلِ الذمةِ).
وقد لَفتَ الجَمعُ بين المساجدِ والكنائسِ والصوامعِ أنظارَ المفسِّرينَ، وربَّما أثارَ دَهشتَهم أيضًا، وتساءَلوا عن دخولِ الصوامعِ والبِيعِ والصلواتِ في خُطَّةِ جِهادِ المسلمينَ ودفاعِهم عنها، وكان مِن إجابةِ عُلماءِ التفسيرِ أنَّ هذه المواضعَ أجمعُ مواضعَ للمؤمنينَ، وإن اختلفتِ العباراتُ عنها، أو كما يقولُ الإمامُ الرازيُّ: (كلُّها مواضعُ يجري فيها ذِكرُ اللهِ تعالي، فليست بمنزلةِ عبادةِ الأوثانِ). فالآيةُ الكريمةُ وهي تأذَنُ بالقتالِ دفاعًا عن مواضعِ العبادةِ لا تأخُذُ في حُسبانِها المساجدَ فقط، وإنَّما تنظُرُ كذلك إلي أماكنِ العبادةِ الخاصةِ بغيرِهم.
وإذن فليس صحيحًا ما يُقالُ عن الإسلامِ في أيامِنا هذه، ويُوصَفُ به مِن أباطيلَ وأكاذيبَ تُمليها مصالحُ ومطامعُ معلومةٌ ومكشوفةٌ، وليس حَسنًا ولا مقبولًا أن يُحكَمَ علي أمةٍ تبلُغُ المليارَ وثُلُثَ المليارِ بجرائمَ قليلةٍ هنا وهناك لا تُمثِّلُ رقمًا صحيحًا في حسابِ النِّسبةِ والتناسُبِ في هذه الأمةِ.
وسوفَ يظَلُّ العالم العربي والإسلامي بعامّة ومِصْرُ بخاصّة ساحةَ الأخوّةِ الإنسانية والتعايش السلمي بين أهل الأديان السماوية، وليس صُدفةً أنْ تَتجاور في سماء مصر الطَّاهرةِ مآذنُ المَساجدِ ومناراتُ الكنائسِ، ومعابدُ قُدماءِ المصريينَ، بل هو الدَّليلُ علي أنَّ هذه الأرضَ مؤهَّلَةٌ منذُ القِدَمِ لأنْ تكونَ رائدةً في التعايش السلمي، وعصِيّةً علي كلِّ المؤامراتِ والتّحرُّشاتِ الّتي تَهدِفُ إلي النَّيلِ مِن هذه الوَحْدَةِ التَّاريخيَّةِ، أو العَبَثِ بحُرمتِها وقُدسِيَّتِها الضَّاربةِ بِجذورِها في ضَميرِ الآبادِ والأزمانِ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.