أثبتت تجربة بلدان الربيع العربي في الإطاحة بأنظمة الاستبداد وتولي قوي جديدة مقاليد الحكم حقيقة عاشتها من قبل مختلف شعوب العالم وهي أن البراعة في صفوف المعارضة لا تعني بالضرورة النجاح والتفوق في مقاعد السلطة. فخلال سنوات الثمانينيات من القرن الماضي ارتفعت أسهم الأحزاب اليسارية والشيوعية في أوروبا الغربية وهي تعارض بشراسة أحزاب اليمين التقليدية في ايطاليا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وحتي بريطانيا نفسها. أثارت قوة المعارضة الشيوعية الأوروبية في ذلك الحين مخاوف أكبر دولتين رأسماليتين في العالم وهما الولاياتالمتحدةالأمريكية تحت حكم رونالد ريجان وبريطانيا التي كانت تتزعمها المرأة الحديدية تاتشر. كان رأي تاتشر هو أن أفضل طريقة لضرب الأحزاب الشيوعية في أوروبا وكشفها أمام الجماهير هي السماح لها بالوصول، مؤقتاً، الي مقاعد السلطة لأنها تدرك أن موقع المعارضة يتيح لمن يجلس فيه أن يتحدث كما يشاء ويرفع صوته بالنبرات الخطابية دون أي مسئولية. علي عكس من يتولي السلطة الذي يحمّله الجميع مسئولية متاعبهم ومعاناتهم ولا يستطيع دغدغة مشاعر الجماهير بالوعود البراقة والآمال الكاذبة. وبالفعل تم تنفيذ خطة تاتشر، ووصل الشيوعيون والاشتراكيون واليساريون الي السلطة في العديد من بلدان غرب أوروبا ولكنهم سرعان ما فقدوا كل شعبيتهم واكتشفت الشعوب انهم لا يملكون سوي الكلمات المعسولة فسقطوا بل وانهارت الشيوعية في عقر دارها بشرق أوروبا بما في ذلك الاتحاد السوفيتي نفسه. تجربة مماثلة تعيشها الآن شعوب الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن. فبعد سقوط رموز الاستبداد في هذه الدول بالنفي والقتل والسجن تولت السلطة قوي المعارضة السابقة وغالبيتها من التيارات الدينية التي تعاطفت معها الجماهير وهي تعارض الأنظمة الديكتاتورية وتتعرض للقتل والسجن والتعذيب. وبعد أن تولت هذه القوي مقاليد الحكم بعد الثورة في بلادها كان من الطبيعي أن يختلف الأداء وأن تظهر ممارسة السلطة كل سلبيات المعارضين السابقين سواء لأنهم يمارسون تجربتهم الأولي في الحكم أو لأن كل خبراتهم السابقة انحصرت في مناهضة الحكومة القائمة. وهنا ظهرت قوي المعارضة الجديدة,وكانت هذه المرة من الليبراليين، وأنصار الدولة المدنية الحديثة، لكي ترتكب نفس الأخطاء.. الصوت العالي..ومعارضة كل شئ تفعله الحكومة... والتكالب علي السلطة دون أن تكون لديها برامج محددة لحل مشكلات الجماهير الحقيقية.. وركزت المعارضة المصرية مثلاً علي رفض كل خطوة للإخوان المسلمين الذين وجدوا أنفسهم في مأزق لم يعهدوه من قبل وهو أن تكون مطالبة الجماهير لها بالأفعال وليس الأقوال فقط. ونظراً لأن موقع المعارضة شديد الإغراء ظهرت في مصر عشرات القوي والأحزاب والائتلافات والحركات التي اتفقت فقط علي مناهضة النظام ومعارضته. وفيما وراء ذلك اختلف الجميع علي كل شئ وفشلوا حتي في التجمع حول شخصية أو رمز أو قيادة محددة ترفع لواء المعارضة وتحتشد حولها الجماهير غير الراضية عن أداء الحكومة والنظام. وحتي الوسيلة الوحيدة التي نجحت الثورة في تحديدها للوصول الي السلطة وهي الديمقراطية و الانتخابات لم يتفق عليها المعارضون,ولذلك لم يحاولوا الاستعداد جيداً لأي انتخابات ولم يستعدوا ببرامج وسياسات بديلة. وكان أوضح دليل علي فشل المعارضة المصرية الحالية هو مطالبة قطاعات منها بعودة حكم العسكر. والحقيقة أن هذا الاختلاف بين قيادات المعارضة المصرية يتحمل جزءاً كبيراً من المسئولية عن الحالة الراهنة التي يشكو منها الجميع. وحتي هذه اللحظة، لم يحاولوا تصحيح أخطائهم وانشغلوا بالاضواء او المميزات التي يتيحها موقع المعارض دون أن يمنعهم ذلك من المطالبة بنصيبهم في السلطة التي لا يعرفون ماذا سيفعلون إذا وصلوا اليها. هكذا، يصبح وصول المعارضة المصرية الحالية الي الحكم مجرد تكرار هزيل لتجربة القوي الدينية فيما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية أو استبدال المقاعد بين الحكومة والمعارضة وفي جميع الاحوال فإن الشعب وحده يدفع الثمن!!!