منذ قرابة عشر سنوات أو يزيد كان عالمنا الكبير دكتور محمد النشائي مدعواً في التليفزيون المصري بمناسبة تتويجه واحداً من أهم علماء القرن العشرين من أكاديمية العلوم والتكنولوجيا في الصين، وطلبوا منه أن يزامله أستاذ مصري للحوار حول رؤية العلماء للدولة المصرية وكيف يكون مشروعها للنهضة؟ وقد أفاض سيادته في شرح معوقات التقدم العلمي في بلادنا ورؤيته الثاقبة حول من أين نبدأ وأي طريق نسلكه. وعندما سئلت من أين نبدأ؟ جاءت إجابتي حاسمة صريحة: علينا قبل أن نضع معالم مشروع نهضة الدولة أن نحقق أولاً وجود الدولة، وقلت نحن نعيش في بلادنا «عالم الأشباه» لا عالم الحقائق، فلدينا جامعات هي شبه الجامعات وحكومة شبه الحكومة، ومجلس شعب شبه مجلس الشعب وسياسات هي شبه السياسات ومؤسسات وأجهزة ودولة «شبه الدولة»، وبقدر ماكانت رؤيتي صادمة فقد دعمت أقوالي بوقائع وحقائق وأفكار لايزال حتي اليوم يتندر بجرأتها واستقامتها صديقنا الكبير محمد النشائي. شيء من هذا فعله الرئيس السيسي بكل الجرأة والحسم الخميس الماضي في حديثه بمناسبة بدء حصاد القمح في مشروعنا القومي الطموح في الفرافرة، إذ قرر دون تردد أننا نعيش في «شبه دولة» لابد من تحويلها لدولة حقيقية. ذلك أننا منذ تحللت الدولة مع الرئيس السادات من كل التزامات عقدنا الاجتماعي الطموح مع عبدالناصر ومشروعه الوطني في إعادة إحياء مشروع محمد علي للنهضة المصرية، فقد تحولنا من «الدولة الحاكمة» إلي «الدولة الحارسة» وسرعان ماحولتها سياسات خلفه الرئيس حسني مبارك إلي «الدولة الرخوة» التي مازالت ملامحها تملأ الصورة حتي اليوم. نعم نحن نعيش «شبه الدولة». ولقد عالجت ذلك في عشرات المقالات، جاء آخرها الأربعاء الماضي بعنوان « سيادة الرئيس: إعادة هندسة الدولة أو الكارثة»، سبقها في الأسبوع الذي قبله مقالي « من خندق النظام أنتقد وأعارض» ثم مقالي «متي تحلق الصقور؟» في فضائنا السياسي لتنقلنا من شبه الدولة الرخوة إلي الدولة الناهضة البازغة الراسخة الذكية SMART STATE، ولقد شرحت في مقالي «من عمق الأزمة» واحدة من أعقد أمور الإدارة الحديثة التي أدخلتها مفاهيم اقتصاد المعرفة علي السياسات العامة في عالمنا الجديد، وهي مفاهيم إعادة الهندسة Re- Engineering التي كانت سبباً مباشراً في تقدم ونهضة الدول التي سبقتنا وتفوقت علينا في الاقتصاد والسياسة والعلوم والحداثة، وحققت الدولة القوية الناهضة البازغة ثابتة الأركان ذات الهوية المحددة والسياسات الطموحة والرؤية الشاملة الساعية لتحقيق سياسات دولة سموها قاصدين «ذكية» S.M.A.R.T. وهي حروف تشير في اختصارها إلي تحقيق أهداف: محددة SPECIFIC، يمكن قياس نتائجها وتقدمها وتطورها في كل مراحلها MEASURABLE، قابلة للتحقيق والنجاح ATTAINABLE، وأن تكون واقعية REALISTIC، وأن ترتبط بجدول زمني منضبط في كل مراحلها TIMELY.هذه هي الرؤية الشاملة والاستراتيجيات والسياسات التي تبتغي أهدافاً ذكية لدولة ذكية تكون رؤية حاكمة يتم تنزيلها علي كل قطاعات ومؤسسات ووزارات وهيئات وأجهزة الدولة، فتبدأ كل منها في إعادة هندسة أفكارها وأهدافها ووظيفتها وآلياتها وإمكاناتها وقدراتها بكل دقة. وفي سبيل ذلك فقد صمم العالم المتقدم مفاهيم إعادة الهندسة لتجيب عن أسئلة ستة رئيسية سموها Six"W"questions:، هي كالتالي: في سياستنا العامة ماهو المراد إنجازه أو عمله أو تحقيقه بالتحديد؟ WHAT ماذا؟، ولماذا نفعله أو نستهدف تحقيقه، أي الأسباب والغايات المراد تحقيقها WHAT، وأين؟ أي ماهو المكان أو القطاع المناسب WHERE، ثم ماهو المطلوب من آليات وقدرات وتمويل، وما المعوقات وكيف يمكن التغلب عليها: WHICH، ثم متي؟ أي الخطة الزمنية، ويأتي السؤال الأخير: من هو القادر علي تنفيذ ذلك؟ من يوكل إليه الأمر وماهي معايير اختياره ؟ WHO، وما قدراته وكفاءته ومدي مناسبتها للمهمة من عدمه بما يستتبع ذلك من توصيف وظيفي محدد وحاكم. هذه هي الأسئلة الستة التي ينبغي الإجابة عليها في كل استراتيجية أو خطة مؤسسية أو سياسة عامة، سواء لدولة وحكومة ووزارة ومحافظة وجامعة وهيئة ومؤسسة وشركة. وهذا هو ما أجملناه في مقال سابق عن الركائز الأساسية لإعادة الهندسة، أي: إعادة التفكير بصورة أساسية في ماهية السياسات العامة المراد تنفيذها والترويج لها،لتجيب عن أسئلة مثل: لماذا نفعل مانقوم به الآن؟ ولماذا نؤديه بالطريقة الحالية؟ وما الذي ينبغي عمله لتطوير الأداء، أي أن تقوم كل مؤسسة أو هيئة أو حكومة بعدم التقيد بالأساليب والممارسات التقليدية المتبعة وتبحث عن أساليب جديدة وعصرية. ثم إعادة التصميم الجذري لأساليب العمل باعتماد منهج التجديد والإبتكار. وبعدها إجراء تحسينات درامية وثورية في معدلات الأداء، وسرعة انجاز العمل وعوامل ومبررات إقناع الجماهير بأهمية العمل وضروراته ومايحققه لهم من مصالح. يتبع ذلك إعادة النظر في كل العمليات التي تقوم بها لتؤدي إلي قيمة مضافة أعلي. وهي في مجملها مفاهيم تحث علي الابتكار وإعادة الهيكلة لتحقيق انسيابية العمل وتحقيق تحسينات جوهرية في الأداء، وتدفع الناس لتبني الفكرة والاقتناع بها والترويج لها والعمل علي استكمالها وتحقيقها عن قناعة في إطار مشاركة اجتماعية وحماس جماهيري يحولها من سياسات وأفكار إلي مشروعات وإنجازات. هنا يمكننا أن نتحول من شبه دولة إلي دولة حقيقية تعبئ كل مواردها وقدراتها وإمكاناتها لتحقيق نهضة وإنجاز وتقدم تحتشد حوله الجماهير ويقوم باعبائه كفاءات يتم اختيارهم علي معايير موضوعية وليست عشوائية أو من خلال استوظاف غير المؤهلين لمجرد أنهم ذوو حظوة لدي كفلاء أقوياء نكبت بهم الدولة وتلاعبوا بمقدراتها. وهنا أتوقع سؤالك التلقائي: أليس هذا هو ماحدث في استراتيجية 2030؟ والإجابة التلقائية أيضاً: راجعها سيادتك لتري إن كان قد تحقق فيها كل ماذكرناه، ولتعلم ماذا ينقصها؟ ولمن يوكل أمر تنفيذها؟ وراجع أياً من وزرائنا ومسئولينا في الصفوف الأولي إذا ماكانت لديه تكليفات محددة بهذا الشكل العلمي لينفذها في وزارته أو مؤسسته؟ وهل مازلنا نعمل باجتهادات فردية هنا وهناك لارابط بينها ولارؤية مؤسسية حاكمة تعرف من أين تنطلق وإلي أين تأخذنا؟، ولعل هذا مارصده رئيسنا بذكاء ومسئولية وقرره بكل شجاعة الرجال أمام الشعب في نبرة أسي: مازلنا نعيش أشباه الدولة لا الدولة الراسخة التي نأملها ونرجوها. إن شجاعة الرئيس وقدرته علي المفاجآت والدهشة تدفعنا لأن نمد له يد العون بالاقتراح والنصح والإرشاد في إطار العلم والخبرة والتجربة، وليعرف سيادته أن مصر لا تعدم أبداً الكفاءات ولا تعقم من القدرات والأفكار والخبرات، وأن إصلاح الدولة يبدأ من عنده ومن قراره وصحة خياراته وانحيازاته التي لايفارقنا أبداً أمل قائم في وقفة تعبوية يقوم بها لإعادة الفرز وغربلة البدائل في السياسات والأفكار والشخوص. إعادة هندسة الدولة هي الطريق وماعداها الكارثة، وأحسب أنه قادر عليها ومؤهل لها، ومصر تستطيع، بطريقته وقدراتها ورجالها، لا بعناوين تقتبسها حكومته ووزراؤها.