في الوقت الذي تنشغل فيه جميع بلدان الشرق الأوسط بأوضاعها الداخلية وتركز جهودها علي قضايا الإصلاح والتنمية الإقتصادية، تنفرد إسرائيل وحدها بالحديث عن الحروب التي تهددها والمعارك والصراعات المسلحة التي تستعد لخوضها. ونظرة سريعة لتصريحات المسئولين وما تنشره وسائل الإعلام في إسرائيل تكفي لكشف مدي سيطرة فكرة الحرب علي عقلية الإسرائيليين وسياساتهم تجاه المنطقة وربما العالم. فمنذ ايام، نشرت مجلة "يسرائيل ديفنس" المتخصصة في شئون الدفاع تفاصيل ما وصفته بخطة عسكرية إسرائيلية تحمل اسم "عوز" يتم تنفيذها استعداداً لحرب قادمة تخوضها اسرائيل، خاصة علي الجبهة الجنوبية مع مصر وتشمل نشر قوات وبطاريات صواريخ وتطويرا للدبابة الإسرائيلية "ميركافا" والتعاقد علي احدث المقاتلات الأمريكية من طراز (إف-35) وغواصات نووية ألمانية من طراز دولفين. وتأتي هذه الاستعدادات الإسرائيلية المريبة للحرب في وقت تمر فيه إسرائيل بمرحلة استقرار وهدوء ربما لم يسبق لها مثيل انعكست في نمو الاقتصاد الإسرائيلي ونشاط غير مسبوق للسياحة الداخلية والخارجية. المقاومة الفلسطينية المسلحة للاحتلال والهجمات الانتحارية الشهيرة في قلب إسرائيل لم يعد لها وجود تقريباً حيث يبدو ان الجماعات الفلسطينية بما فيها حركة حماس في غزة قد اقتنعت بضرورة التهدئة خاصة مع الانقسامات الحادة في صفوف الفلسطينيين. وعمليات حزب الله اللبناني ضد اسرائيل متوقفة تقريباً، منذ الانسحاب من جنوب لبنان مع انشغال حزب الله وزعيمه حسن نصر الله بتسوية اوضاعه علي الساحة الداخلية اللبنانية وتركيز اهتمامه علي ما يجري في سوريا. اما دول الجوار وفي مقدمتها مصر فقد اكدت في اكثر من مناسبة انها ليست معنية، في هذه المرحلة علي الأقل، بالدخول في حرب مع إسرائيل وأعلنت السلطات المصرية الجديدة التزامها باتفاقية السلام كما أكد الرئيس محمد مرسي في حديثه الأخير مع وكالة رويترز ان مصر لا تهدد احداً وانه لا يجب ان يكون هناك اي نوع من القلق الدولي او الإقليمي من الحملة العسكرية المصرية في سيناء والتي تتم باحترام كامل لكل اتفاقياتنا الدولية. اما الجار الثاني وهو سوريا فمن الواضح ان الظروف التي تمر بها لا يمكن ان تسمح حتي بمجرد التفكير في دخول حرب مع إسرائيل او غيرها. نفس الشيء ينطبق علي العراق وحتي إيران التي تؤكد، رغم عدائها لإسرائيل، انها لن تكون البادئ ابدا بالعدوان علي احد بما في ذلك الدولة الصهيونية. ويحاول الإيرانيون بشتي السبل اقناع العالم بأن برنامجهم النووي للأغراض السلمية فقط ولا يستهدف احدا بما في ذلك إسرائيل. رغم كل ذلك فإن العقلية العسكرية الإسرائيلية، تعكس كل العقد اليهودية التاريخية، وتصر علي ان إسرائيل في خطر ولابد ان تستعد لحرب اخري قادمة لا محالة. حتي تصريحات الرئيس مرسي التي حاول بها ان يطمئن العالم واسرائيل بأن مصر لا تضمر شرا لأحد لم تقنع الساسة الإسرائيليين بأن مخاوفهم المزعومة لا اساس لها. ورغم ترحيب وزير الخارجية الإسرائيلي افيجدور ليبرمان المبدئي بهذا الموقف المصري إلا انه وصفه بانه لا يكفي وطالب الرئيس مرسي بضرورة زيارة اسرائيل حتي تهدأ مخاوفها! وربما كانت هناك اعتبارات سياسية داخلية لصرخات الحرب التي يطلقها قادة اسرائيل دون مبرر ولكن خطورة حالة الاستنفار والتهديد التي تعيشها اسرائيل الآن تكمن في أنها يمكن ان تدفع بالمنطقة الي مواجهات مسلحة حقيقية لا تسعي اليها سوي العقلية الإسرائيلية المتوجسة بغريزتها والعدوانية بطبيعتها. هكذا، اصبح الفكر السياسي والاستراتيجي الإسرائيلي يعكس تطبيقاً حرفياً لمفاهيم الجماعات الأصولية المسيحية واليهودية التي يطلق علي اعضائها وصف "أنبياء القيامة" والذين يغلب علي ارائهم ومواقفهم التشاؤم ويصرون علي ان نهاية العالم اصبحت وشيكة وأن كارثة حرب "هرمجدون" بين مختلف الديانات والثقافات والحضارات سوف تتحقق قريبا ولا مفر منها. خطورة هذا المعتقد الخاطيء الذي تعكسه مواقف وسياسات قادة إسرائيل ليست هي مجرد التشاؤم والتحرك علي خلفية سيناريوهات الكارثة، بل رفض كل احتمالات التفاؤل والأمل في المستقبل والعمل علي السير في طريق هذه الكارثة او التعجيل بها علي اقل تقدير. انها نفس مشكلة اليهود عبر مختلف مراحل التاريخ.. وحكاية قلعة الماسادا ومعبد شمشون خير دليل.