مصعب بن عمير وصفه المؤرخون والرواة بأنه " كان أعطر أهل مكة ، انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..كان علي الرغم من حداثة سنه ، زينة المجالس والندوات ، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب. وذات مساء سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها في دار "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه الي دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...هناك كان الرسول صلي الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.وكان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..! ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتي لامست الصدر المتوهج،.. وفي لمح البصر كان الفتي الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما يفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان.! فكر أن يكتم اسلامه حتي يقضي الله أمرا خوفا من غضب أمه . وظل يتردد علي دار الأرقم ويجلس الي رسول الله صلي الله عليه وسلم، الي ان أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الي دار الأرقم ثم رآه مرة أخري وهو يصلي كصلاة محمد صلي الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها ، شاخصا الي أم مصعب، حيث ألقي عليها النبأ الذي طار بصوابها... ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعون حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقي.وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، وحبسته في دارها وأحكمت عليه اغلاقه ، وظل رهين محبسه حتي خرج بعض المؤمنين مهاجرين الي أرض الحبشة ، وغافل أمه وحراسه، ومضي الي الحبشة مهاجرا . ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، وقد خرج يوما علي بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتي حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا.. ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولي قبل إسلامه حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وتملي رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت علي شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال: " لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتي أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!! لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتي ولو يكون هذا الانسان ابنها..!! اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الي المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم.. وكان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان القريب.. وأثبت "مصعب " بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم عرف كيف يختار.. فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها، عرف أنه داعية الي الله تعالي، ومبشر بدينه الذي يدعو الناس الي الهدي، والي صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه إلا البلاغ.. وظل مصعب يحمل رسالة الاسلام ويدعو الي دين الله حتي وفاته في أحد .