هل تتخيل أن هناك بصاصين عاشوا أعمارهم وماتوا ولم يعرف أحد أنهم كذلك إلا يوم دفنهم في كل مرة وقبل أن تقلع بنا الطائرة إلي نيويورك يدس صديق الرحلة الطويلة الأديب والصحافي المتميز مصطفي عبيد نائب رئيس تحرير الوفد في يدي مجموعة روايات يعيرني بعضها بشرط إعادتها فور هبوطنا بمطار كنيدي ومنذ عامين فوجئت بمصطفي يعيرني كتابا واحدا وهو يقول: هذه المرة ليس لك اختيار وكانت المفاجأة رواية «انقلاب» من تأليف مصطفي عبيد نفسه التي رصد فيها بأسلوبه الشيق والبديع زواج السلطة بالمال في سنوات مبارك الأخيرة. ومنذ أن انتهيت من «انقلاب» وأنا أسأل مصطفي كلما التقيته عن روايته القادمة فيقول:هانت حتي فوجئت به منذ أيام يرسل لي بتحفته الجديدة «البصاص»والتي صدرت في طبعة أنيقة عن دار الرواق صمم لها الغلاف الروائي والمصور الرائع أحمد مراد وهي تحكي قصة كرم البرديسي المعيد بقسم التاريخ بآداب القاهرة والذي يعيش وحيدا بين براويز تحمل صورا لوالديه وصديقه الأبدي الجبرتي، بالإضافة لوثيقة تاريخية لنظام العسس في مصر مؤرخة بعام 1844ميلادية ألهمته باختيار موضوع التطور الأمني في عهد المماليك ومحمد علي كرسالة للدكتوراة، يقرأ فيها التاريخ بشكل مختلف ركز علي جوانب سلبية عن عظماء خلدهم التاريخ مثل صلاح الدين الأيوبي الذي يكن له كرم كراهية شديدة ويعتبره مثالا علي تزوير التاريخ، هل يمكن أن نغفر لقاتل أو طاغية سفكه للدماء لأنه حقق نصرا ما وهل سيغفر التاريخ لصلاح الدين أنه أمر ابنه أن يقتل الفقيه السهروردي لا لشيء إلا لأنه ما ناظر أحدا إلا غلبه!. وقع كرم البرديسي في حب صحفية كان يتمني الارتباط بها لولا مفاجآت لا أريد أن احرقها للقراء وقد استهوته فكرة البصاصين في عصر محمد علي وكيف كان يتم إقناع البصاص بأنه يقوم بعمل وطني جليل وأنه يحمي الدولة من الأشرار المعارضين فالبصاص هو الإمام الحارس. مشكاة الدروب المظلمة وسلالم الصاعدين إلي الحقيقة، رجل الأقدار لحفظ الأمن والحفاظ علي الدولة. البصاص عين الأمة للسهر علي منافع الناس. هل تتخيل أن هناك بصاصين عاشوا أعمارهم وماتوا ولم يعرف أحد أنهم كذلك إلا يوم دفنهم! وعندما يسأله صديقه حسن عن المقابل الذي كان البصاص يحصل عليه يفاجئه كرم قائلا:لم يكونوا يحصلون علي أموال وفيرة، بل إن كثيرين كانوا يعملون تطوعا، أو خوفا من السلطان. والغريب أن بعضهم نقلوا أخبار وأقاربهم درءا للعقاب الجماعي، وشهدوا بأنفسهم إعدام أصدقائهم. وعندما يتحسر حسن قائلا: التاريخ يكرر نفسه يجيب كرم بعبارة عبقرية تقول: التاريخ لا يكرر نفسه إلا في الأمم المتخلفة. أخشي القول أن عذوبة أسلوب مصطفي عبيد وثقافته التاريخية الكبيرة الجلية في هذا العمل قد جعلتني أحمل اعجابا خاصا لهذا البصاص الذي لا قلب له. مات ودفن يوم نذر نفسه لخدمة الإمام. لا يحب سوي من يطيع ويرضي ولا يكره إلا من يعصي ويطغي. يداه هي عذاب الله للمارقين والكفرة، يعتصر الضالين اعتصارا حتي يبوحوا ويقروا، يعذره الله فيما يفعل لأن مبتغاه الأخيرهو صون الدين وصيانة الدنيا. لذا فعليه السلام أينما حل وأذل وله المن متي أنطق واستنطق. جميع أبطال الرواية تشعر أنها شخصيات من لحم ودم ليست بعيدة عنك في البيت والشارع والعمل، وبعضها جزء من شخصيتك، لذا أنظر يوميا في المرآة باحثا عن البصاص الذي بداخلي خاصة أن كرم البرديسي ختم رسالته بأن «كثيرًا من البصاصين لم يكونوا يعرفون أنهم كذلك»!.؛