المشهد الصعب الذي تعيشه مصر الان يطرح سؤالا شديد الأهمية، وهو سؤال قديم جديد، حول مدي ملائمة الديمقراطية كنظام سياسي للبلدان النامية، ولا أقول المتخلفة. كثيرون من الساسة، بداية من الداهية الأمريكي هنري كيسنجر وحتي رئيس الوزراء المصري الأسبق أحمد نظيف، المسجون حاليا، أكدوا أن الديمقراطية تتطلب مرحلة من النضج والوعي لم تصل إليها بعد شعوب العالم الثالث! انفجر غضب الكثيرين ضد هذه الرؤية باعتبارها تعبر عن موقف عنصري فاسد. وأكدوا أن الديمقراطية كفيلة بعلاج كل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول النامية ويستطيع مواطنوها التعامل بكفاءة مع النظام الديمقراطي بدليل بعض التجارب الناجحة هنا وهناك مثل الهند وجنوب افريقيا.. ولاشك أن الشعوب بريئة من هذا الاتهام بالعجز عن ممارسة الديمقراطية والذي تسببت فيه سنوات الاستعمار الطويلة وأنظمة الحكم الدكتاتورية المستبدة التي عمقت لدي الجماهير أسوأ أفكار الفردية وأهمها أن سبيلها الوحيد للتقدم، بل والحياة، هو عبقرية الحاكم الملهم الذي يستطيع وحده قيادتها نحو الاستقرار والرفاهية والمجد حتي ولو كان مستبدا ظالما! وربما يكون هذا هو التفسير الوحيد للشعار الغريب الذي تردده الجماهير كثيرا في مختلف أنحاء العالم العربي.. "بالروح والدم نفديك يا زعيم" الذي لا تجد له مثيلا في الديمقراطيات الحقيقية التي يتركز ولاء المواطنين فيها علي السياسات والبرامج والأفكار وليس علي شخصية الحاكم مهما بلغت منجزاته ونجاحاته في خدمة الوطن.. وربما كان هذا هو السبب، أيضا، في أن الشعوب "النامية" تركز غضبها، عندما تغضب، علي شخص الزعيم أو الحاكم فتمثل، به كما حدث مع القذافي في ليبيا أو تكتفي بهروبه أو نفيه كما حدث في تونس مع زين العابدين بن علي أو في اليمن مع علي عبد الله صالح أو حتي في مصر عندما التفت الملايين حول شعار أساسي يتعلق بالمخلوع حسني مبارك وحده وهو.. ارحل.. أو الشعب يريد إسقاط الرئيس.. لذلك، لم يكن من الغريب أن تتعثر الثورات وانتفاضات الشعوب في غالبية البلدان النامية لأنها تعتقد مبكرا أنها حققت المستحيل عندما أطاحت بشخص الطاغية حتي لو استمر نفس النظام وحتي لو جاء طاغية آخر بملامح مختلفة يواصل نفس السياسات القمعية الظالمة التي ثاروا عليها!. هذا، بالتحديد، هو أهم أسباب إجهاض الثورات في العالم الثالث.. شخصنة الثورة ضد النظام، وأيضا شخصنة أحلام الجماهير وطموحاتها واختزالها في فرد، أو تنظيم بعينه تضعه الجماهير علي قمة السلطة وتنصرف إلي حال سبيلها بعد أن تتوهم أنها أدت دورها وأنجزت مهمتها... ولا أنسي حوارا دار منذ سنوات بيني وبين دبلوماسي من إحدي الدول الدكتاتورية عندما سألته عن السبب الذي يجعل شعب بلاده يصبر علي الطغيان والفقر والظلم لسنوات دون أن يقوم بثورة يطيح فيها بالنظام وينتزع كل حقوقه المشروعة.. وفوجئت برد الدبلوماسي الصديق عندما أكد أنه يتفق معي في معاناة بلاده من الحكم الاستبدادي ولكن المسألة في رأيه لا تحتاج لثورة، ربما تكون دموية وسوف تنتهي المشكلة تماما عندما يموت الملك، كما يقولون، وخاصة أن الزعيم الطاغية مريض جدا وسوف يرحل عن السلطة والدنيا كلها قريبا وبذلك يتحقق هدف الثورة دون المجازفة بإشعالها.. وإراقة الدماء وزعزعة الاستقرار! وبالفعل، مات الزعيم بعد شهور ولكن النظام استمر وسرعان ما أصبح خليفته أكثر استبدادا لتصدق مقولة وراء كل قيصر يموت يأتي قيصر جديد بدليل تصاعد القهر في هذه البلاد لدرجة جعلت الجميع يرددون "احنا اسفين يا زعيم"، ليس ندما علي إسقاطه وإنما لأنهم حملوه شخصيا ووحده مسؤولية ما تعرضوا له من فساد وظلم وطغيان.. ولكن، الذي لا يدركه أصحاب نظرية عدم ملائمة الديمقراطية للبلدان النامية، أن الشعوب المقهورة قادرة علي التعلم وتصحيح الأخطاء.. وهي مستعدة لدفع ثمن هذه الأخطاء مهما كان فادحا ومؤلما لتثبت قدرتها علي استيعاب المعني الحقيقي للثورة وجدارتها بالحرية والديمقراطية..