هذه المرة في السينما، أذهب وحدي، وأفتش في الظلام عن وجه أفتقده وأبحث عنه، فلا أجده، وتومض الشاشة أثناء الإعلانات بذكريات تؤلم بالتقادم، وصوت قرمشة البوب كورن الذي نسميه (فيشار) ينغزك في قلبك الذي يعرف دون غيره لماذا ذهبت إلي السينما وحيداً، وكيف ستنزل دموعك في نهايته للاشئ مفهوم، رغم النهاية السعيدة، لكنها روحك. جسر الجواسيس أو (bridge of spies)، فيلم يذكرك اسمه بروايات نبيل فاروق الجاسوسية الشهيرة، لكنه أعمق بكثير من كل الروايات التي قرأتها في هذا الصدد، ليس لمجرد أنه عن قصة حقيقية، ولا لأن بطله هو الحائز علي الأوسكار، والممثل الذي لم يخذلني من قبل (توم هانكس)، فما بالك لو كان مخرجه أيضاً هو ستيفن سبيلبرج، لكن لأن القصة نفسها ستدهشك، ولأن الحوار يبدو وكأنه قد صيغ ليعيش، وتسقطه علي أي واقع، فيبقي، ولا تكفيه مقال لذكره. يبدأ الفيلم أيام الحرب الباردة، حيث كلتا القوتين العظميين تخشي من الأخري، ومن تسلحها النووي، للدرجة التي تجعل أمريكا تنتج أفلام كارتون للأطفال عن احتياطات الطوارئ أثناء حرب متوقعة مع السوفييت، وفي هذه الأثناء يتم القبض علي جاسوس سوفييتي طاعن السن في قلب الولاياتالمتحدةالأمريكية. تبحث (أمريكا) عن (اللقطة) كعادتها، فتستعين بمحام أمريكي يدافع عن الجاسوس، لتثبت أنها تحب العدالة، وتعطي للناس حقوقهم حتي لو كانوا أعداءها، فيما يبدو كل ذلك ديكوراً لإدانته في النهاية، ودفعه دفعاً للإعدام بالكرسي الكهربائي كما يقولون هم بأنفسهم في الكواليس، وهنا يأتي دور المحامي (جيمس ب.دونوفان) الذي لعب دوره (توم هانكس) ليترافع عن الرجل، رغم كونه محامي تأمينات في الأساس، لكن (دونوفان) يقرر أن يتعامل مع القضية باحترام، علي عكس ما تريده حكومته، أو مخابراته، وبالتالي ينظر للجاسوس نظرة إعجاب، ليس لأنه يتجسس علي بلده بالطبع، لكن لأنه يقوم بخدمة جليلة من أجل بلده هو، ويرفض أن يتعاون مع الحكومة الأمريكية أو يبوح بأي أسرار لوكالة الاستخبارات الشهيرة (سي آي إيه). هنا ستقابل العديد من الشخصيات، القاضي الذي يقولها صراحة : دافع عنه كما تريد لكني سأدينه في النهاية، وضابط المخابرات الأمريكية الذي يذهب للمحامي ليعرف أسرار موكله، فيرفض هذا الأخير، وحين يقول له الضابط : كف عن قواعدك الحمقاء فلا مجال هاهنا للقواعد، يقول له المحامي : أنت من أصول ألمانية، وأنا من أصول أيرلندية، وكلانا أمريكي، فهل تعرف ما الذي جعلنا كذلك ؟؟ إنها القواعد التي تريدني أن أتخلي عنها، وكتاب القواعد اسمه الدستور، ليخرج ضابط المخابرات و(قفاه يقمر عيش)، بينما يبتسم المحامي في استفزاز، وهو يؤكد قيامه بعمله، بل ويهاجم الأجهزة الأمنية لأنها فتشت غرفة موكله دون تصريح. قبل الحكم علي الجاسوس يطلب دونوفان من القاضي ألا يكون الحكم هو الإعدام، لأن ذلك يسقط فرصة مبادلة الجاسوس بآخرين أمريكيين في المستقبل، وحين يفعل القاضي، يتجه المحامي المحترم إلي المحكمة الأمريكية العليا للاستئناف، ويخسر استئنافه بفارق صوت واحد فقط، وتصبح حياة دونوفان صعبة بسبب هؤلاء الذين اعتبروه خائناً بدفاعه عن الجاسوس، ويتطور الأمر لدرجة إطلاق النار علي منزله، وقذفه بالبيض، والنظر إليه باستحقار شديد عند ركوبه الحافلات العامة، لكنه لا يتراجع. علي الجانب الآخر يحدث ما حذر منه دونوفان، حين يتم القبض علي طيار أمريكي قاد طائرة تجسس فوق الأراضي السوفييتية، وتم إسقاطها والقبض عليه، وتلعب الأقدار دورها حين يكلف دونوفان - بدون غطاء رسمي - بالتفاوض مع السوفييت لمبادلة السجناء الجواسيس، وفي نفس الأثناء يتم القبض علي طالب اقتصاد أمريكي (ظلماً) في ألمانياالشرقية (الموالية للاتحاد السوفييتي)، ويتم اتهامه (ظلماً) بالتجسس، أملاً في مقايضته بالجاسوس الروسي، وعلي الرغم من التعليمات لدونوفان بمبادلة الجاسوس بالطيار الأمريكي فقط، لكنه يدخل للعبة مفاوضات خطرة ووعرة للغاية مضيفاً اسم الطالب الأمريكي علي الصفقة، رغم غضب المخابرات الأمريكية التي لا يهمها الطالب بأي حال، وما بين سفالة الأجهزة الأمنية ومصلحتها في إنهاء الأمر كما تريد، ومبدأ دونوفان الذي يتحدي به الجميع، ينتصر المبدأ في النهاية، ويعود للجميع بطلاً، يصدر بيان رسمي يحوي شكره علي جهوده، بينما يكبر الطالب ليصبح أستاذ اقتصاد بارعاً بعد أن يحصل علي الدكتوراة، ويكرم الطيار، ويصبح اسم دونوفان مثالاً للمحامي المحترم صاحب المبدأ، للدرجة التي تجعل الولاياتالمتحدة تستعين به في مفاوضات تالية مع فيدل كاسترو، ليثبت نجاحاً كبيراً بفضل احترامه لمبدأه، مهما حاولت دولته أن تجعل من الأمر (لقطة). في نهاية الفيلم تومض الأضواء من جديد، وأكتشف أنني أبكي، ليس لأمر أفهمه، لكن ربما لأنني لم أجد الوجه الذي أبحث عنه، أو لأن اللقطة الآن أصبحت هي الأساس.