أكثر الناس لهم عادة في سلوكياتهم ملحوظة ومتكررة، وهي أنهم إذا سألهم سائل في الطريق، أو طرق بابهم مسكين، عمدوا إلي اقل فئة ممكنة من العملة، للتصدق بها. فإذا كانت العملة الصغيرة ورقية، كربع الجنيه مثلا، قبل الغائه وكان لدي الشخص عدة أوراق منها، فإنه حين يعزم علي التصدق بفرزها بسرعة ليختار أسوأها وأردأها فيدسه في يد السائل الفقير !!! وإذا كانت العملة معدنية كالقروش قديماً عمد إلي الممسوح منها فتصدق به. وينتظر مقابل ذلك حوراً عيناً وجناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ له فيها من كل فاكهة زوجان. والمسلم، وهو يعمد إلي هذا السلوك، يعلم حق العلم أن الله تعالي قال في كتابه العزيز «لن تنالوا البر حتي تنفقوا -مما تحبون -». فما تفسير هذا الازدواج السلوكي؟ وجهت هذا السؤال لعدد من أصدقائي فمنهم من قال إن الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة مصابة بانفصام عميق بين القول والفعل، بين ما نقرأ في القرآن والسنة وما نفعل.... ولولا هذا الانفصام لكانت أمتنا حقا خير أمّة.... ومنهم من قال إن هذا الازدواج تولد عند هؤلاء من الصراع بين حالين : الاول الرغبة في الإنفاق ونيل الأجر والثواب والثاني حب المال وعرض الدنيا الزائل، فيدفعه الثاني إلي إخراج الاول في أردأ صورة ممكنة، ومنهم من قال إن تعبير الازدواج السلوكي جامع..فلو أنهم بخلاء فلماذا يتصدقون أصلا.؟.و لكنهم يريدون إراحة أنفسهم و تحصيل الثواب بأقل مجهود..فإذا استوعبوا معني الدعوة للتصدق ولو بشق تمرة..فالأفضل أن يكون الشق الأنضج هو المتَصَدَّق به ولكن.الشح جبلت عليه النفس..ففي السنة النبوية تحذير من « شحٍّ مطاعٍ وهوي متبع «..، ومنهم من قال إن تفسير هذا الازدواج مرده إلي الازدواج في التنشئة أيضا. فهناك قيم يجتهد الاباء في غرسها في نفوس الأبناء غير أن الآلة الاعلامية والمجتمع يعليان من قيم أخري تسودها المادية فتكون النتيجة الحتمية تديُّنًا شكليا، الأولوية فيه للمظهر قبل السلوك وللقول قبل العمل. ومنهم من قال إن تفسير هذا السلوك المتدني المرذول، وازدواجية النظر إلي الثابت اليقيني يفرضان وجوب التصحيح والتصويب، فضلا عن التربية والتدريب للعامة والخاصة ، وهي مسئولية عظيمة تقع برمتها علي عاتق ولاة الأمور، وأهل العلم والفقه والإعلام . هذه اجتهادات عدد من الأصدقاء، وأنا معهم، وأضيف إن هذا الانفصام في الشخصية المسلمة المعاصرة تغذيه عوامل خارجية لم يكن الدين هو السبب في وجودها : منها ( الفقر) وما يستتبع الفقر من تخلف وجهل ومرض. كل ذلك يجعل أكثر الناس مضطرين إلي مخالفة ما هم مقتنعون به من شريعتهم، تحت وطأة الحاجة والخوف من المستقبل، ومع ذلك يشدهم حنين قوي إلي إحياء سنن دينهم فيحاولون - بالقرش الممسوح - التوفيق بين ما يحبون ومايستطيعون. علي أن الخطر الحقيقي في هذا الازدواج الديني بين ما يسلكه المسلم من سلوكيات وصحيح الدين وبدهيات الإيمان، لا يكمن فقط في نموذج التصدق الذي ذكرناه، بل قد يتعدي هذا السلوك البسيط إلي نوع أخطر من الممارسات السياسية يظهر في الانتخابات. وهو ما يمثل الخطر الأكبر علي مستقبل الأمة حين تزداد الهوة اتساعا بين الأقوال والأفعال، [email protected]