051 يوما مرت علي حكومة الدكتور كمال الجنزوري، لا أبالغ عندما اقول انها شكلت علامة فارقة في تاريخ ثورة يناير التي تواجه اليوم تحديات كثيرة. 051 يوماً تعرض فيها الرجل إلي حملة ظالمة، كانت تفتقد للموضوعية ولغة العقل، ولم تكن سوي عواطف جياشة، علي طريق الديمقراطية والحرية في بداية ممارستها وعكست لحد كبير مناخا سياسيا متقلباً لم تتحدد بعد اهدافه ووسائله. وكانت انعكاساً طبيعياً لحالة الصراع والتناحر التي وقعت فيها كل القوي السياسية بعد سنوات طويلة من الكبت والحرمان. لا اعتقد ان حكومة اخري من الحكومات السابقة أو اللاحقة سوف تواجه نوعية التحديات والصعاب والمشاكل، التي واجهتها حكومة الجنزوري. وأياً كانت احكام البعض منا علي أداء الحكومة، فإن الحقيقة التي لا يمكن لاحد التنصل منها انها تمثل بداية لحكومات ما نطلق عليه الجمهورية الثانية، والتي شاء قدرها أن تضع الأسس والقواعد للمستقبل، وفي اطار رؤية علمية متكاملة يقودها باقتدار رجل لم يختلف علي وطنيته وكفاءته أحد حتي أشد المعارضين لسياساته. كان من المتوقع ان تشهد العلاقة بين الحكومة والبرلمان نوعاً من الشد والجذب، كان مقصده في البداية والنهاية مصلحة مصر وشعبها وتحقيق كل ما تصبو اليه من آمال بعد فترة طويلة من الاخفاق والمعاناة. ومن زخم الثورة، وانطلاقا من الرغبة في العمل بسرعة من أجل تجاوز كل السلبيات وتحقيق طموحات الشباب وآمالهم، بدأت ما يمكن ان نطلق عليه الفجوة بين حقيقة التحديات وحجم الامال والطموحات وما يفرضه الواقع المرير الذي عاشته مصر في العام الاول من الثورة، والتي تولت المسئولية فيه حكومة شرف التي لا نقلل اطلاقاً أو نشكك في وطنية اشخاصها، وان كنا نضع مئات علامات الاستفهام والتعجب والدهشة من ممارساتها وخاصة في الشق الاقتصادي.. وهنا يكفي ان نشيد فقط إلي فقدان الرؤية والموضوعية فيما يتعلق بالموارد وحجم واوجه الانفاق التي شابها في احيان كثيرة سفهه الاسراف الذي كاد يعصف باحتياطيات مصر من النقد الاجنبي. ناهيك عن الخروج المنظم للاستثمارات الاجنبية، وتوقف عجلة الانتاج والاستثمار الوطني ونضوب كل الموارد التقليدية. حدث ذلك في الوقت الذي لجأت فيه الحكومة إلي الاستجابة غير الرشيدة للمطالب الفئوية في صورة زيادات متتالية في الحوافز والاجور والمكافآت - رغم العجز الشديد في الموازنة - والتي كانت وحدها سببا مباشراً في انتشار حمي المظاهرات والاعتصامات التي اجتاحت مصر كلها، والتي اوجدت ثقافة جديدة، وهي الضغط المستمر من أجل تحقيق المطالب. وجاء تعامل الحكومة مع ثوار يناير وشهدائها الابرار ومصابيها باسلوب ساذج، حتي ان عدداً كبيراً من الوزراء وضعوا اغنيات الثورة وشعاراتها علي اجهزة هواتفهم، وقام رئيس الوزراء بتخصيص مكاتب لبعض شباب الثورة داخل مقر مجلس الوزراء، وغيرها من السلوكيات التي عكست لحد كبير مدي الانفصام الذي نعانيه في تعاملنا مع شباب كانوا كلهم اكثر حنكة وعلماً منا. وجاء اختيار الدكتور كمال الجنزوري لرئاسة الحكومة وقبوله لهذا التكليف ليشكل علامة فارقة، تؤكد في أحد جوانبها معادن الرجال، غير انها علي الوجه الآخر كانت تشير إلي الحقيقة المرة، حول تردي الاوضاع الاقتصادية وضرورة الاختيار الدقيق لمن يملك الخبرة والحنكة علي ان يعيد الابحار بسفينة الوطن. وهو ما حققه د. الجنزوري بنجاح لا يستطيع أحد التشكيك فيه. كانت الصورة والحقيقة قاتمة وسط حالة من الفزع والرعب الذي اجتاح نفوس كل المصريين بعد ان غابت قوي الامن كنتيجة طبيعية لانهيار هياكلها، وتدمير العديد من منشآتها ومعداتها والانكسار النفسي الذي عاشه افرادها. لم يكن اختيار الدكتور الجنزوري من فراغ لكنه جاء انعكاساً لرؤية ثاقبة من المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس الاعلي للقوات المسلحة، والذي كان يسابق الزمن من أجل العبور من محنة تكاد تعصف بمصر كلها، وخلال ايام قليلة من توليه المسئولية الصعبة بدأ الشارع المصري يدرك ان ثمة متغيرات كثيرة تتم، حيث بدأت منظومة بناء الامن الداخلي من جديد مع التواجد التدريجي داخل الشارع المصري الذي روعته احداث البلطجة والسطو المسلح والاختطاف. بدأ الرجل يمسك بخيوط الاقتصاد التي تقطعت كل اوصالها، ليعيد تصويب الكثير من الاخطاء، والتي كان اهمها وقف النزيف الذي تعرض له الاحتياطي الاجنبي والذي كان قد تجاوز 63 مليار دولار قبل الثورة، وفقد ما يقرب من ثلثيه خلال اقل من عام. وفي الوقت الذي كانت فيه كل المؤسسات المالية العالمية تتوقع استمرار هذا النزيف نجحت حكومة الجنزوري في تقليل حجم الانفاق من الاحتياطي، والذي بدأ للمرة الاولي في النمو من جديد، وبزيادة وصلت لمائة مليون دولار خلال شهر واحد، وقدم للموازنة وفورات تقارب 52 مليار جنيه، ساهمت في خفض العجز، كما بدأ في نفس الوقت اصلاح المديونية الخارجية مع الالتزام بسداد كل أقساط وفوائد هذه الديون. حدث ذلك مع استمرار صمود الجنيه المصري أمام كل العملات الأجنبية. وبدأت عملية اعادة ضخ المزيد من الاموال في كل قطاعات الدولة وخاصة البناء والتصنيع والزراعة، واصدرت الحكومة ما يقرب من 021 قرارا كانت كلها تصب في خانة الانعاش الاقتصادي والاجتماعي. حكومة د. الجنزوري كانت أكبر تصحيح لمسار ثورة يناير، والتاريخ وحده سوف يكشف ويؤكد ذلك. وأعتقد أنها سوف تكون تحت بصر أي رئيس جديد يأتي لمصر.