(((... ذات صباح.. قرأت عايدة نعيا علي مساحة صغيرة بصفحة الوفيات بجريدة الأهرام.. لم يلفت نظرها اسم المتوفاة.. لكن ودون أن تدري شهقت وهي تقرأ اسم زوج السيدة الراحلة.. سألت نفسها في دهشة: معقول.. يكون هو؟!.. أعادت عايدة قراءة النعي.. الاسم الثلاثي يؤكد أنه هو المقصود.. يوسف أول رجل أحبته وحرمتها الأقدار من الزواج منه.. عشرون عاما لم تره فيها مرة واحدة.. اختفي بشكل مريب.. ظنت أنه هاجر.. أو سافر في إعارة طويلة.. أو ربما مات ورحل عن دنيانا مثلما رحل معظم الذين كانت تعرفهم.. وتثق فيهم.. وتأنس بهم..ظلت الجريدة في يدها عدة دقائق.. آخر ثلاثة سطور في النعي شدت انتباهها: وسوف تشيع الجنازة عقب صلاة ظهر اليوم من المسجد الكبير بحدائق القبة.. والعزاء بالمقابر.!.. اتخذت عايدة قرارا عاجلا لم تفكر فيه طويلا, فالوقت لم يكن يكفي للتدبر أو التأمل أو التردد.. نظرت إلي ساعة الحائط.. لازال باقيا علي صلاة الظهر وقتا كافيا.. أسرعت إلي دولابها.. فستانها الأسود جاهز دائما, فالأحزان تسدد في مرماها أهدافا بالجملة في السنوات الخمس الأخيرة !.. ارتدت فستانها ولم تنس أن تقف أمام المرآة ولو للحظات.. ضايقتها شعرة بيضاء برزت فجأة بين خصائل شعرها الذهبي الناعم الطويل.. آلمها هذا الظهور المفاجئ لشعرة بيضاء رغم أنها في بداية الأربعينات من عمرها.. مدت يدها.. نزعت الشعرة البيضاء بعنف وهي تهمس لنفسها: «.. بقي ده وقته!!»..))).. كان عزاؤها الوحيد أنها لازالت تمسك بجمالها وتحتفظ بفتنتها ورشاقة قوامها.. كانت تتصرف بسرعة كيلا تمنح عقلها فرصة للتفكير قد تمنعها من مواصلة المغامرة.. غادرت شقتها.. أشارت إلي أول تاكسي: حدائق القبة يا أسطي؟.. عند المسجد الكبير..! هناك نزلت.. تذكرت أنها لا تعرف أحدا سوي يوسف.. تأملت الوجوه.. لابد أن معظم المعزين من زملائه في مصلحة البريد التي أصبح وكيلها كما قرأت في النعي.. لكن أين هو؟!.. فجأة.. تنبهت علي صوت رجل قريب منها: النساء يدخلن المسجد من هذا الباب! تمت الصلاة وكانت عايدة أول من خرج من النساء إلي الطريق.. ها هو يوسف بشحمه ولحمه يشق الصفوف ليحمل الجثمان فوق كتفه.. خفق قلبها بشدة وتلاحقت أنفاسها.. وقفت علي أصابع قدميها تتابع المشهد.. لابد أن صاحبة الجثمان هي سناء..ألم تسمع اسم سناء هذا من عشرين عاما كعروس يوسف؟؟.. ألم يكن هذا الخبر آخر ما سمعته عن يوسف بعد فك خطوبتهما!!.. بدأت السيارات تتحرك في اتجاه المقابر وألقت عايدة بنفسها في اتوبيس المصلحة.. تمت مراسم الدفن بينما كانت عايدة تستدعي دموعها, وما أسهل استدعاء الدموع لعيني امرأة؟.. وقف يوسف علي رأس طابور من الرجال يتلقي العزاء.. تسمرت عايدة في مكانها.. اتجه إليها يوسف متظاهرة أنها إحدي قريباته.. صافحها بيد مرتعشة.. عرض عليها أن يوصلها بسيارته.. انسحب زملاؤه.. ركبت إلي جواره.... همس لها وهو يتأمل ملامحها كأنه يراها لاول مرة: لابد من عودتي للبيت الآن.. أختي وبعض أقاربي هناك.. لكن كيف سأراك؟!..عندي كلام كتير ولابد عندك مثله.. ما رأيك أن نتقابل..! لم أشاهد أولادك في الجنازة ولا عند المقابر؟ ليس عندي أولاد.. سناء تركتني وحيدا..! لو سمحت لي برقم تليفونك, سوف نتكلم طويلا؟ لم تصدق نفسها حتي بعد أن عادت إلي شقتها.. كيف قامت بهذه المغامرة؟!.. نظرت إلي نفس ساعة الحائط.. ثلاث ساعات فقط ربطت بين الماضي والحاضر في مفاجأة لم تخطر لها علي بال أو خاطر طوال عشرين عاما؟.. استلقت فوق سريرها بفستانها الأسود بينما كل ألوان الربيع الزاهية تتراقص أمام عينيها؟.. ها هو يوسف حي يرزق.. لم يتغير فيه سوي هذا الحزن الساكن بين جفنيه.. وهزال جسده.. ونظارته الطبية التي أخفت كثيرا من بريق عينيه! الحب سرا ! مرت أربعة أيام دون أن تتجرأ عايدة وتتصل بيوسف.. ربما خافت أن تفتح في حياتها نافذة حب قديم فتهب منها رياح قد تعصف بحياتها.. لكن يوسف بادر بالاتصال بها وأصر علي مقابلتها في الغد.. تنفست الصعداء ووافقت!.. خرجت معه.. وتكررت اللقاءات بعد عتاب قاس من يوسف.. ذكرها أنها هي التي أطفأت كل المصابيح في طريقه عندما تقدم لها.. وبررت موقفها ببراعة لأن زواجهما كان مستحيلا بعد أن أصبح بين العائلتين ثأرا ودما.!. سألته في دلال الأنثي أين وكيف اختفي.؟!. ولماذا اختفت أخباره؟!.. وأجابها بأن الرجل لا يمكنه نسيان امرأة إلا بهجرته لكل أماكن ذكرياته معها.. والبعد عن كل معارفها وكل من تربطه معها صلة ما.. صارحها بأنه تعذب في بعادها عنه وتعذب أكثر من أجل المرأة التي تزوجها وأشعلت أصابعها شموعا لترضيه..!.. وتنتبه عايدة علي جملة نطق بها يوسف وهو يبكي: أحببت سناء ببطء.. ويوم اكتمل حبي لها فارقت الحياة..!!.. ويوم دفنتها بيدي قبل ايام ظهرت أنت في حياتي وكأن القدر أراد أن يرحمني ويرحمها من شراسة الحب القديم حينما يعود.. رحمها بالموت.. ورحمني بظهورك مرة أخري.. أنا في أشد الاحتياج لك الآن.. أرجوك لا تطفئي المصابيح مرة أخري؟ لكنك لم تعرف عن ظروفي أكثر من أنني انفصلت عن زوجي.. ولي ابن واحد يعيش بين بيتي وبيت والده بعد أن التحق بالجامعة.. أنت لا تعرف أن ابني هو أكبر عقبة بيني وبينك.. قبل ثلاث سنوات تقدم شخص في وظيفة مرموقة طالبا يدي.. لكن ابني هاج وماج وثار وأقسم أنه لو دخل بيتي رجل غريب فلن أره مدي الحياة؟!.. بل كان متحمسا لإعادتي لعصمة أبيه.. لكني كنت حاسمة معه.. وقلت له «دعنا نتفق.. أنا لن أتزوج.. وأيضا لن أرجع إلي أبيك فلا يمكن بعد زواجه أن أكون امرأة من امرأتين في حياته!».. ونفذنا الاتفاق أنا وابني بمنتهي الدقة, فلا هو يفتح لي سيرة أبيه ولا أنا أفتح له سيرة الزواج! قاطعها يوسف في حماس: بسيطة.. لن أدخل بيتك.. ولن نعلن زواجنا.! ليكن في علمك.. لو تزوجنا بهذا الشكل فلن يكون بيت الزوجية نفس البيت الذي عشت أنت فيه مع امرأة أخري, حتي لو أصبحت هذه المرأة بين أطباق الثري تحت الأرض!
في الخفاء كل شئ كان يجري وفق خطة محكمة.. باع يوسف شقته.. وباع ثلاثة فدادين بقريته هي كل ميراثه.. بني بيتا صغيرا في إحدي المدن الجديدة بالقاهرة.... ومرت أجمل أيام العمر بين الزوج الذي كان أرملا والمطلقة التي لم تكن تتردد علي بيتها الجديد إلا في الأيام التي يكون فيها ابنها الوحيد مقيما في بيت والده! .. ولأن السعادة عمرها قصير, كانت هناك أشياء أخري تجري في الخفاء.. همسوا في أذن الابن الوحيد أن أمه صارت عشيقة لرجل تتردد علي بيته سرا؟!.. وذات يوم خطط له جيدا قفز من سور الحديقة ثم من نافذة إحدي الحجرات.. تجول في البيت علي أطراف أصابعه حتي وصل إلي غرفة النوم المغلقة.. دفع الباب بيده.. فوجئ بأمه بين أحضان الرجل مسلوبة الإرادة.. تنبه يوسف علي الشاب يخرج مسدسه ويطلق الرصاص نحوه.. افتدي يوسف زوجته وتلقي ثلاث رصاصات في صدره بينما استقرت رصاصتان في كتف الأم وذراعها.. هرب الشاب من حيث أتي.. وفارق يوسف الحياة!! رغم إنكار عايدة في التحقيقات معرفتها للجاني وإصرارها علي أنه شخص غريب.. إلا أن تحريات المباحث توصلت إلي ابنها الوحيد الذي اعترف في التحقيقات بارتكابه للجريمة دفاعا عن الشرف! حضرت عايدة جلسات المحاكمة امام المستشار مصطفي ابو طالب.. كانت ترتدي فستانها الأسود الذي يبدو أنه كان مكتوبا عليها!!.. حاولت أن تدافع عن ابنها.. لكنها – أيضا – دافعت عن شرفها وقدمت للمحكمة وثيقة زواجها الرسمية وراحت تحكي قصتها كاملة لماذا أخفت زواجها الذي تم علي سنة الله ورسوله؟. تم حجز القضية للحكم.. وخرجت عايدة من القاعة تبكي بحرقة دون ان تدري علي من تبكي علي زوجها أم ابنها الوحيد.. بعض النساء ليس من حقهن أن يفرحن أبدا؟؟ Mأة أة.. تنبهت علي صوت رجل قريب منها