د. مدحت محمد سعدالدىن في مقال بديع للفقيه القانوني العظيم المغفور له الدكتور عبدالرازق السنهوري نشر بمجلة مجلس الدولة عام 2591 تحت عنوان »مخالفة التشريع للدستور والانحراف في استعمال السلطة التشريعية« عبر عن الأفكار التالية وكأنه رحمه الله كان يستشرف المستقبل وما يدور به من أحداث، فحاول في هذا المقال قياس فكرة الانحراف التشريعي علي نظرية الانحراف الإداري، وحصر منطقة الانحراف سواء في جانب السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية في نطاق السلطة التقديرية المخولة لأي منهما. ووضع معيارا للانحراف التشريعي بقوله ان المشرع يجب أن يستعمل سلطته التشريعية لتحقيق المصلحة العامة فلا يتوخي غيرها ولا ينحرف عنها وإلا كان التشريع باطلا ومعيبا بعيب الانحراف بالسلطة، واعتبر ان ذلك المعيار ذو شقين شق ذاتي يتعلق بتعرف الأغراض والنوايا والغايات التي أضمرتها السلطة التشريعية وقصدت إلي تحقيقها بإصدارها تشريعا معينا، وشق موضوعي هو المصلحة العامة التي يجب أن يتوخاها المشرع دائما في تشريعاته، وكذلك الغاية المخصصة التي رسمت لتشريع معين، وقرر أن هذا المعيار الذاتي الموضوعي وإن كان يصح انطباقه علي الانحراف في السلطة التنفيذية فإنه يصعب التسليم به في انحراف السلطة التشريعية، لأنه من غير المستساغ أن تنسب غايات شخصية إلي السلطة التشريعية، والمفروض أن هذه الهيئة تستعمل سلطتها لتحقيق المصلحة العامة ولا غاية لها غير ذلك. لذلك اقتصر علي معيار موضوعي لتمييز الانحراف التشريعي عن الانحراف الإداري، وعدد حالاته علي النحو التالي: أولا: حالة أن يصدر البرلمان »تشريعا عاما مجردا« وهو يعلم أنه لن يطبق في الواقع إلا علي حالات فردية، فالتشريع باطل لأن البرلمان انحرف في استعمال سلطته التشريعية. كأن يصدر البرلمان تشريعا بإلغاء هيئة قضائية مستقلة بقصد التخلص من أعضائها ثم يعاد تشكيل الهيئة بتشريع آخر بعد فترة وجيزة من التشريع الأول، فيعين البعض في هذه الهيئة ويستبعد البعض الآخر بزعم إعادة هيكلة هذه الهيئة (كما حدث في مذبحة القضاة في عام 9691). وكأن يشرع البرلمان في الوقت الحالي لإصدار قانون هيئة الشرطة بقصد إعادة هيكلة جهاز الشرطة، واستبعاد بعض أعضائه بلا سند قانوني ثابت في حق من استبعد، أو المحاولات التي تجري علي قدم وساق لتعديل المرسوم بقانون رقم 471 لسنة 2102 لمنع البعض ممن ترشحوا للرئاسة من ممارسة حقهم الدستوري للترشح لهذا المنصب بحجة تقلدهم مناصب قيادية في النظام السابق قبل قيام ثورة يناير. ثانيا: حالة أن يصدر البرلمان تشريعا بزعم وقاية النظام الاجتماعي وهي الغاية المخصصة لأي تشريع، وبدلا من هذا الهدف تتخذ اجراءات وتدابير استثنائية لا تدخل في وقاية النظام الاجتماعي وإن كانت تدخل في حفظ الأمن والنظام العام، كأن يصدر قانون بمد حالة الطوارئ والأحكام العرفية لمواجهة أخطار معينة غير متحققة علي أرض الواقع، كما كان يحدث في النظام البائد، وحينئذ يعتبر هذا التشريع مجاوزا لغايته المخصصة ومعيبا بعيب الانحراف التشريعي. ثالثا: حالة صدور تشريع يهدف إلي تقييد الحريات العامة كالحق في المساواة والخصوصية وحرمة المسكن وحرية التعبير والتنقل والتملك ومباشرة الحقوق السياسية، فيعتبر التشريع في هذه الحالة باطلا لمخالفته للدستور والمخالفة هنا مباشرة، لأن السلطة التشريعية لا تتمتع في هذا المجال بأي سلطة تقديرية، وإنما سلطتها في هذه الحالة مقيدة بالحفاظ علي الحريات الأساسية، كأن يصدر قانون لمنع فرد أو أفراد بعينهم من مباشرة حقوقهم السياسية بحجة عملهم مع النظام السابق، تحت ستار شعار ليس له ضوابط كعبارة افساد الحياة السياسية، دون ان يثبت في حقهم ارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون، فينقلب الأمر من مراعاة أبسط المبادئ الديمقراطية إلي قمة الديكتاتورية والتسلط وفرض رأي بعينه. رابعا: يعتبر كذلك التشريع معيبا بالانحراف إذا تغول علي الحقوق المكتسبة والمراكز القانونية المستقرة، كقانون الضريبة العقارية الذي يزيد من الأعباء الضريبية للممولين والمستقرة مراكزهم القانونية. وفي بيان نظرية الانحراف الإداري فقد صاغها الفقيه الكبير علي أساس منع اساءة استعمال السلطة بتسخير سلطات القانون العام لتحقيق أهداف شخصية لا علاقة لها بتحقيق المصلحة العامة. وعلي الرغم من مرور أكثر من نصف قرن علي هذا المقال الذي بين موطن الداء وأن صانعي القانون قد تسيطر عليهم أهداف مغايرة للصالح العام، وهذه الأهداف التي تكمن في صدورهم تنطبع علي التشريع فتؤدي إلي صدوره معيبا، نجد ان السبب الرئيسي في ذلك هو موافقة الأغلبية الطاغية علي هذه القوانين حال أنها لا تعبر عن رأي الناخبين الذين يمثلونهم. مع انه في الديمقراطيات العريقة تصدر القرارات المصيرية بعد مناقشات موضوعية وحوارات مستفيضة، يبدي المشاركون فيها آراءهم بكل وضوح وجرأة وصراحة ويدعم كل مشارك رأيه بالحجج والأسانيد ويقارعه الآخر الحجة بالحجة، ثم تؤخذ الأصوات ويصدر القرار بالأغلبية، وتنصاع الأقلية لرأي الأغلبية مادام الصالح العام هو رائد الجميع من اصدار القرارات التي يتحاورون ويتجادلون بشأنها. أما في الديمقراطيات الوليدة فالأمر مختلف والصورة مشوشة بسبب انعدام ثقافة الحوار وتحول المناقشات في الأمور المصيرية إلي مشاجرات ، ويتحول الأمر من مناقشة المسألة المهمة إلي محاولة كل طرف فرض وجهة نظره والاصرار علي رأيه حتي ولو كان خاطئا أو مفتقرا إلي السند المنطقي السليم. وانقسام المتحاورين إلي أغلبية وأقلية، وينتهي الأمر في النهاية إلي تغليب رأي خاطئ عديم القيمة ليس له سند إلا استبداد الأغلبية الطاغية برأيها الخاطئ في أمور مصيرية لا يراعي فيها الصالح العام.