بين أبهاء الكرملين بقصوره البديعة وابراجه الشامخة، اصطحب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضيفه الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي يصفه منذ تعارفا ب «الصديق العزيز»، في جولة علي الأقدام، لتفقد مقر الحكم في روسيا منذ عهد القياصرة، المطل علي الميدان الأحمر، أكبر ساحات موسكو، والمواجه لنهر «موسكوفا» الذي يخترق قلب العاصمة الروسية. قلما يصطحب رئيس روسي، زعيماً لدولة أجنبية في جولة مماثلة، حتي المسئولين الروس لا يتذكرون من آخر زعيم اختصه بوتين بهذه اللفتة التي تعبر عن كرم ضيافة وعن صداقة شخصية وطيدة. في أرجاء الكرملين أو «الحصن»، طاف الرئيسان بالقصور والقاعات والغرف التي يغلب علي جدرانها لون الذهب، وعلي أعمدتها لون أوراق الليمون مع اللون الأحمر القاني في تداخل متناغم، بينما ازدانت الحوائط بلوحات أبدعها فنانون روس، تعبر عن انتصارات الإمبراطورية الروسية علي مر تاريخها. ومن الأسقف العالية تدلت ثريات تخطف الأنظار من فرط جمالها وروعتها. كانت الجولة ختاما لساعات أربع، أمضاها الرئيسان معا في مباحثات مطولة بدأت في الواحدة ظهرا، بعد وصول الرئيس السيسي إلي ساحة القصر الرئيسي، قادما من النصب التذكاري لشهداء الجيش الروسي، المجاور للكرملين. بدأت المباحثات بلقاء ثنائي بين الرئيسين، ثم جلسة موسعة حضرها كبار المسئولين الروس وفي مقدمتهم سيرجي لافروف وزير الخارجية، وحضرها من الجانب المصري سامح شكري وزير الخارجية ود. محمد شاكر وزير الكهرباء والمهندس شريف إسماعيل وزير البترول واللواء خالد فوزي رئيس المخابرات العامة واللواء عباس كامل مدير مكتب رئيس الجمهورية والسفير علاء يوسف المتحدث باسم الرئاسة والسفير محمد البدري سفير مصر في موسكو. ثم امتدت الجلسة علي غداء عمل اعقبه مؤتمر صحفي ألقي فيه الرئيسان بيانين عن نتائج المباحثات *** هذا هو اللقاء الخامس بين الرجلين، واللقاء الرابع بين الرئيسين في غضون عام واحد. اللقاء الأول كان في منتصف فبراير من العام الماضي، حينما كان السيسي وزيرا للدفاع برتبة المشير، واستقبله بوتين يومها استقبال زعماء الدول، ولم يخف الرئيس الروسي يومها إعجابه بشخصية السيسي، وموقفه المقدام في مساندة ثورة الشعب في 30 يونيو، وعبر بصراحته المعهودة عن دعمه لقرار السيسي بخوض انتخابات الرئاسة، استجابة لرغبة الجماهير المصرية. اللقاء الثاني كان في منتجع «سوتشي» الروسي الشهير المطل علي البحر الاسود، بعد مضي 9 أسابيع علي تولي السيسي منصب الرئيس. وفي هذا اللقاء الذي استمر 13 ساعة كاملة لم يفترق فيها الرئيسان، قال بوتين للسيسي: إنه ينوي تقديم هدية لمصر تعبيرا عن الصداقة القديمة بين البلدين والشعبين، وتقديرا لدوره هو شخصيا في تعزيز أواصرها وتوطيدها، وكشف له عن طبيعة الهدية. وبالفعل، حان وقت تقديمها يوم الاحتفال بافتتاح قناة السويس الجديدة بحضور رئيس الوزراء ميدفيديف، او حفل إعادة اطلاق قناة السويس وتدشين مجراها الجديد «علي حد تعبير بوتين في المؤتمر الصحفي أمس»، وكانت الهدية هي لنش الصواريخ الروسي «مولينا» الذي تقدم المظاهرة البحرية التي أحاطت باليخت «المحروسة». اللقاء الثالث - كان في القاهرة التي استقبلت بوتين بحفاوة غير مسبوقة لزعيم دولة صديقة خلال السنوات الأخيرة. وكانت أهم جلسات مباحثاته قمة القاهرة، تلك التي جرت في عشاء خاص في الطابق الأخير من برج الجزيرة، واقتصرت علي الرئيسين، وجري خلالها رسم مستقبل علاقات التعاون الاستراتيجي المصري الروسي. وفي 9 مايو الماضي، جري اللقاء الرابع في قصر الكرملين، علي هامش احتفالات روسيا بالذكري السبعين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية. في نهاية هذا اللقاء.. قال بوتين للسيسي وهو يودعه: «أنت ضيف مرغوب فيه دائما في روسيا، انني سعيد بلقائك وأكن لك محبة كبيرة علي المستوي الشخصي، وأنا في خدمتك وخدمة مصر، لتواصل مهمتك الكبيرة من أجل نهضتها». *** نفس المودة، والتفاهم، والتوافق، التي سادت اللقاءات السابقة، أظلت اللقاء الخامس في الكرملين أمس. قبيل بدء المؤتمر الصحفي للرئيسين، سألت وزير الخارجية سامح شكري عن نتائج مباحثات القمة في ملفها الإقليمي، فقال: إنها أظهرت توافق وجهات النظر تجاه القضايا والأزمات التي نوقشت، وبالأخص في مجال مكافحة الإرهاب. وسألت وزير الكهرباء د. محمد شاكر: فقال: إننا جاهزون للتعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، بمجرد انتهاء الخبراء من المسائل الفنية والمالية. ثم سألت اللواء عباس كامل مدير مكتب الرئيس، وأحد أقرب معاونيه، فقال: إن نجاح المباحثات كان فائقا، وأن العلاقة الشخصية الوطيدة بين الرئيسين، هي إحدي ركائز الانطلاقة التي سيشهدها التعاون المصري الروسي في الفترة المقبلة. وسألت السفير علاء يوسف المتحدث باسم الرئاسة.. فقال: إن المباحثات بشكل عام اظهرت الاتفاق في الرؤي، وأكدت مجددا عمق التفاهم بين الرئيسين والتقدير المتبادل بينهما. وأضاف ان هناك وفودا فنية ستزور مصر خلال الفترة المقبلة لإنهاء تفاصيل ما جري الاتفاق عليه خلال مباحثات القمة في مجالات الاستثمار والتصنيع والتبادل التجاري. *** من خلال كلمتي الرئيسين بوتين والسيسي في مستهل لقائهما الثنائي، وبيان كل منهما في المؤتمر الصحفي، وأيضا من خلال ما علمته من مصدر رفيع المستوي يمكن القول: إن مباحثات الساعات الأربع حققت نتائج مهمة سواء علي الصعيد الثنائي، أو التحرك المشترك في قضايا الشرق الأوسط وأزماته. في مجال التعاون المصري الروسي، اقتربت المفاوضات الخاصة بإنشاء أول محطة نووية مصرية لتوليد الكهرباء بتقنية روسية من الانتهاء، ويدرس الجانب الروسي تقديم مزيد من التسهيلات المالية لمصر في أسعار إنشاء 4 مفاعلات نووية بطاقة 1200 ميجاوات لكل منها. أيضا سيتم خلال هذا الشهر تحديد البرنامج الزمني لإنشاء منطقة تجارة حرة بين مصر والاتحاد الأوراسي الذي يضم روسيا وبيلاروس وكازاخستان وأرمينيا وقيرغيزستان. تم الاتفاق ايضا علي تفعيل تأسيس الصندوق المشترك المصري - الروسي - الإماراتي للاستثمار في مصر، واستخدام العملتين المصرية والروسية في التبادل التجاري بين البلدين لتحقيق طفرة جديدة، بعد الطفرة التي حققها في العام الماضي وبلغت نسبتها 86٪، كذلك بدء الخطوات التنفيذية لإنشاء المنطقة الصناعية الروسية في مشروع تنمية إقليم قناة السويس، وزيادة الصادرات الروسية من القمح وإنشاء صوامع لتخزينه. وتدرس مصر الاستفادة من صناعات الطيران المدني الروسية وبالأخص طائرة الركاب السوبر جيت طراز سوخوي. وفي مجال التعاون العسكري.. تشهد الفترة المقبلة تنفيذا لما جري الاتفاق عليه بين القوات المسلحة في البلدين. وبرغم السرية التي تحاط عادة بالحديث في هذه المسائل، لم يخف الرئيس السيسي ارتياحه لما تحقق بالأخص في نطاق التسليح والتدريب المشترك وتبادل الخبرات في مسألة مكافحة الإرهاب. واتفق الرئيسان علي ان تتولي اللجنة المشتركة للتعاون بين البلدين والتي ستنعقد بالقاهرة قبل نهاية العام، متابعة تنفيذ كل ما اتفق عليه في مختلف مجالات التعاون وتذليل اي عقبات. *** القضايا الاقليمية والتطورات الدولية استحوذت علي جانب مهم من المناقشات في القمة المصرية - الروسية. ووفقا لما اعلنه الرئيس السيسي.. اتفقت الرؤي المصرية - الروسية علي تحقيق تسوية سلمية للأزمة السورية طبقا لاتفاق جنيف، وأكد البلدان ان حل القضية الفلسطينية بإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية، هو مسألة محورية لإرساء الأمن والاستقرار بالشرق الأوسط. وجري ايضا تناول الاوضاع في ليبيا واليمن والمنطقة بشكل عام. اما عن قضية الارهاب.. فقد اتفق الرئيسان علي معالجتها من زاويتين، الاولي هي المواجهة النشطة والحاسمة للتنظيمات الارهابية والمتطرفة، عن طريق انشاء جبهة واسعة من القوي الدولية واللاعبين الاقليميين، وتري روسيا انه يجب عدم استثناء سوريا من الانضمام لهذه الجبهة. الزاوية الثانية أوضحها الرئيس السيسي عندما قال: ان احتواء ظاهرة الارهاب يرتبط ارتباطا وثيقا بعلاج الاوضاع في الشرق الاوسط وحل ازمات المنطقة، ومن ثم لابد من تكثيف التشاور والتنسيق المصري - الروسي حول هذه القضايا، وفق رؤية تستند إلي الحفاظ علي وحدة وسلامة أراضي هذه الدولة واستعادة الأمن والاستقرار بها. خلاصة ما انتهت إليه قمة الكرملين هو وجود رغبة أكيدة من الرئيسين في ترسيخ علاقات التعاون الاستراتيجية بين البلدين، ويري بوتين أن زيادة هذا التعاون يحقق المصالح القومية لمصر وروسيا معا، كما يري السيسي أن أساس هذه العلاقات وهو التقارب السياسي والفكري وتحقيق المصالح المشتركة في إطار من الصداقة والاحترام المتبادل، هو ما يضمن لها مزيدا من النمو والعمق. وبين مظاهر الحفاوة وعبارات الشكر، عند وداع بوتين للسيسي علي أبواب الكرملين، اتفق الرئيسان علي استمرار التواصل والتشاور من خلال الوفود، او علي مستوي الزيارات الرئاسية، للاحتفاظ بوتيرة التعاون والتنسيق وتحقيق طفرة جديدة في العلاقات.