لقد قلت لك أنك ضابط سوف يكون لك مستقبل.. ألم تفكر وتبحث من الذي نقلك إلي المخابرات بعد قيام الثورة بيومين ؟ حددت فلسفة عبد الناصر وتكوينه الاجتماعي والفكري نوعية القرارات التي يمكن أن تتخذ في إطار مبادئ الثورة، وتحدد طبيعة المهمة في كل مرحلة نوعية الأشخاص الذين يمكن أن يلعبوا دورا في تحقيق المهمة، ولقد كان أبرز ما يميز عبد الناصر في صنع القرارات هو تحديد الهدف بوضوح لكل مرحلة وبالتالي اختيار العناصر الملائمة للمرحلة والقادرين علي تنفيذ الهدف، ولقد تدرجت هذه العملية علي مدي تاريخ الثورة كله. ففي فترة التحضير للثورة كان علي عبد الناصر أن يركز علي الأهداف العامة التي يمكن أن تجمع كل الاتجاهات الوطنية حولها من منظور سياسي، وتأجيل المنظور الاجتماعي إلي مرحلة لاحقة لما يمكن أن يثيره من تباينات بين العناصر القائمة بعملية التغيير السياسي. وكان أهم العناصر التي ارتكز عليها عمل عبد الناصر في تشكيل تنظيم الضباط الأحرار هو استقلالية هذا التنظيم عن أي تيار سياسي أو أيديولوجي كان موجودا علي الساحة المصرية في تلك الفترة مهما كانت درجة قوة أو شعبية هذا التيار، واتجه فكر عبد الناصر إلي اختيار عناصر يثق في وطنيتها وقدرتها علي مواجهة المخاطر التي تحيط بتنفيذ الثورة وتأمينها ضد أية تحركات مضادة من الداخل أو من الخارج. ولقد عبر عبد الناصر عن هذه الفكرة في مناسبات ثلاث مهمة : كانت المناسبة الأولي في حوار أجراه مندوب جريدة « سكوتسمان « البريطانية في بداية الثورة مع عبد الناصر وقد وجه المراسل إليه سؤالا نصه : « كيف وأنت بهذه التركيبة المتناقضة الغريبة حققت هذا النجاح يوم23يوليو1952، وأنت تعلم وأنت رجل مثالي وقائد للثورة أنه لا أحد يستطيع أن يقول فيك شيئاً أنك لم تقم بالثورة مستعينا بعناصر ولم يشأ المراسل أن يكمل السؤال وفهم عبد الناصر ما يريد أن يقوله، فأجابه بقوله: « أولا، لكي تحدث تغييرا يجب أن تستخدم أشخاصا يتسمون بالجرأة والرغبة في المغامرة، وليس كل إنسان ذي قيم بقادر علي المغامرة.. أحيانا الإنسان ذو القيم والأخلاق عندما يجد رقبته تحت حد السيف غالبا ما يفكر أو يراجع نفسه، وليس معني ذلك أن أستبعده أو أصفه بالخيانة أو الجبن فأنت أولا وأخيرا تتعامل مع بشر من لحم ودم وليسوا من حديد أو جماد.. هؤلاء البشر يملكون العقل ومنهم من يحسن رصد خطواته أو يتردد، ومنهم من يلعب « الكوتشينة « وآخرون لا يقتربون منها.. تلك هي طبيعة البشر.. فيها السلبي وفيها الإيجابي.. ولكن لكي تحدث تغييرا بهذا الحجم، وإذا كان هذا التغيير مسلحا فأنت تحتاج بالدرجة الأولي إلي تشكيل جبهة سياسية تتجمع في داخلها كل هذه العناصر وهذه النوعيات. وثانيا، أنت في حاجة لكي تجمع كل هذه العناصر التي تؤمن أو توافق علي التغيير، عليك أن تبذل جهدا لاستقطابها إلي صفك رغم ما قد يكون بينها من تناقضات حتي تضمن النجاح للجبهة كلها،، ولعلمك فقد كانت توجد داخل هذه الجبهة عناصر مدنية مثل أحمد فؤاد الذي كان يعمل قاضيا وحامد معيط الذي كان يعمل مهندسا في السكك الحديدية وكلاهما كانت له صلات مباشرة بالضباط الأحرار. وثالثا، لابد أن تأخذ في الاعتبار أن التغيير المنشود قد يحتمل النجاح ويحتمل الفشل، فإذا فشلت العملية فلماذا تعرض عدد أكبر للخطر.. يكون عليّ في هذه الحالة أن أترك بعض العناصر الصالحة للمستقبل، عسي أن يتمكنوا من استكمال المسيرة في المستقبل إذا ما تعثرت. ولعلمك فإن عددا ليس قليلا من رجال الصف الثاني كانوا في خاطري ولم أشركهم في التنفيذ يوم الثورة حفاظا علي المسيرة، ولكنني لم أتردد في إبرازهم والاستفادة من قدراتهم بعد نجاح الثورة، ومنهم من يعمل معي مباشرة الآن. «. أما المناسبة الثانية فقد جاءت في حوار مباشر بيني وبين الرئيس جمال عبد الناصر في منتصف الخمسينيات وقد كان واضحا منذ فترة مبكرة قبل23يوليو1952 أن قيادة تنظيم الضباط الأحرار قد وضعتني ضمن اهتماماتها، وما بين اتصال ثلاثة من زملائي من الضباط الأحرار بتكليف من كمال الدين حسين لتيسير إمكانية الحصول علي بعض المواد المطلوبة للنشاط الفدائي في منطقة قناة السويس إلي لقائي الأول مع عبد الناصر خلال التحاقي بفرقة الشئون الإدارية، وانتهاء باختياري سكرتيرا للرئيس للمعلومات، فقد كلفت بالعديد من المهام ذات الحساسية العالية، وتلقيت غالبية هذه التكليفات من عبد الناصر شخصيا.. لكن انضمامي إلي تنظيم الضباط الأحرار لم يتم إلا ليلة تنفيذ الثورة بالفعل، وبدأت المشاركة في اجتماعات التنظيم في أعقاب الثورة كما انتظمت أيضا في حضور اجتماعات ضباط المدفعية التي كانت تعقد برئاسة كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة في منزله في منشية البكري في ذلك الوقت وكذلك تسديدي للاشتراك الشهري للتنظيم ( 25قرشا ) والذي كان يحصله البكباشي عبدالحميد بهجت ( المستشار التجاري فيما بعد ). ولقد أثار ذلك سؤالا في ذهني آثرت أن أتوجه به إلي عبد الناصر مباشرة عندما أتاح لي موقعي إلي جانبه فرصة مفاتحته في بعض الموضوعات البعيدة أحيانا عن جوهر العمل المكلف به. ففي منتصف نوفمبر1956 وفي شرفة مبني مجلس قيادة الثورة بالجزيرة المطلة علي النيل، وبعد أن هدأت نسبيا التوترات المصاحبة للعدوان الثلاثي علي مصر وبعد أن تم وقف إطلاق النار، وخلال لقاء مع الرئيس توجهت إليه بسؤال عما يدور في ذهني وقلت له : « سيادتك يافندم اخترتني علي أي أساس ؟ فأجاب : هل تذكر لقاءنا الأول عندما قابلتك أثناء دراستك لفرقة الشئون الإدارية ؟ وهل تذكر ما قلته لك يومها ؟ لقد قلت لك أنك ضابط سوف يكون لك مستقبل.. ألم تفكر وتبحث من الذي نقلك إلي المخابرات بعد قيام الثورة بيومين ؟ ومن الذي استدعاك يوم 26 يوليو1952 ؟ هل كانت لك معرفة سابقة بزكريا محيي الدين ؟ فأجبت بالنفي. فواصل كلامه : هل تعرف أحدا من أعضاء مجلس قيادة الثورة ؟ فقلت له : حتي كمال الدين حسين كان يرسل لي ضباطا أعرفهم، لكني لم أتعرف عليه شخصيا ولم أتشرف بمقابلته إلا بعد حوالي الشهر من قيام الثورة. فاستطرد عبد الناصر : إنت كنت أحد الناس اللي حطيت عيني عليهم. فقلت : بس سيادتك لم تضمني لعضوية التنظيم. فقال: أنا عارف مكوناتك.. إنت نوعك مستقر.. ويمكن تفيد في مرحلة الاستقرار وليس في مرحلة يمكن أن تنجح أو تفشل أو تخيب.. فأنت بدأت حياتك وانتظمت في مهنتك، وأنت لا تلعب الورق مع هذا أو تسهر مع ذاك، وعندما التحقت بالمخابرات طلبت من كمال الدين حسين أن يضمك إلي إحدي خلاياه الرئيسية بعد الثورة وكان يحضر معك الاجتماعات أبو اليسر الأنصاري وعبد المجيد شديد ومحمد أبو الفضل الجيزاوي ومصطفي كامل مراد وسعد زايد وعماد رشدي وغيرهم. ثم أخذتك لتعمل في هيئة مراقبة الأداة الحكومية وأنت تعلم تماما من هم أعضاؤها ووضعهم بالنسبة للتنظيم والثورة، وبعد كدة نقلتك إلي القسم الخاص في المخابرات وأنت تعلم أيضا ماذا كان يعني هذا المكتب بالنسبة للنظام، ثم كان نجاحك هو السبب في خلق الوشايات الحاقدة ضدك في عملية قضية المدفعية، وعندما فكرت في إنشاء سكرتارية المعلومات وفي مناقشة مع حكيم (عبدالحكيم عامر) رشح هو شمس بدران أو من يرشحه شمس بدران لتولي هذه المسئولية إلا أنني اخترتك لتولي هذه المسئولية نتيجة تقييمي لصلاحيتك لهذا المنصب «. ملحوظة : «كانت مجموعة شمس بدران تتردد بصفة مستمرة في ذلك الوقت علي مكاتب القسم الخاص والتي كانت في نفس مبني إدارة المباحث العامة في مبني المجمع بميدان التحرير ثم انتقلت بعد ذلك أيضا مع المباحث العامة إلي مبني وزارة الداخلية بلاظوغلي، وكان القسم الخاص يمثل نافذة علي كل ما يجري داخل البلد، وكان عبد الناصر يعتبر في ذلك الوقت أن شمس بدران أحد رجاله المخلصين باعتباره أحد أعضاء إحدي خلاياه الرئيسية في تنظيم الضباط الأحرار وظل هذا الاعتقاد مستمرا حتي آخر سنة 1966 عندما عين شمس بدران وزيرا للحربية ( أكتوبر 1965 )، حيث بدأ يظهر ولاؤه وانحيازه الكامل لعبد الحكيم عامر وكان يشاركه في ذلك كل من عباس رضوان وصلاح نصر وهو ما تأكد عمليا بعد أحداث هزيمة1967 « انتهت الملحوظة. ولا شك أن احتفاظ عبد الناصر بشخصيات بعينها ذات صفات قدّرها هو وعمل علي عدم إشراكها في أحداث ليلة 23يوليو1952، كان أمرا مخططا ولم يكن يتم بصورة عشوائية. أما المناسبة الثالثة فقد وردت خلال لقاء عبد الناصر بسامي الدروبي سفير سوريا الأسبق في مصر والذي اختاره عبد الناصر ليكون أحد من يتولوا التأريخ لثورة يوليو52 عبر عدة جلسات عقدها معه في استراحة المعمورة بالإسكندرية في منتصف شهر أغسطس1970 وقبل رحيله بحوالي شهر ونصف، وكانت هذه اللقاءات تعتمد علي سرد الرئيس لكل أحداث الثورة منذ تبلور فكرتها قبل إنشاء تنظيم الضباط الأحرار ووصولا إلي تاريخ اللحظة التي كانا يجتمعان فيها أي أغسطس1970. وقد حضرت معهما جلستين حدد الرئيس في الأولي الخطوط العامة للقضايا التي ينوي التحدث فيها وفي الثانية ركز علي كيفية اختياره لمختلف العناصر التي شكلت معه قيادة تنظيم الضباط الأحرار وقيادة الثورة فيما بعد، وفلسفة التغيير الذي ينشده، ثم منعتني مشاغلي وتكليفات الرئيس لي عن حضور باقي الجلسات سواء مع سامي الدروبي أو مع دياللو تيللي السكرتير العام لمنظمة الوحدة الإفريقية الذي اصطفاه عبد الناصر أيضا للتحدث معه حول نفس الموضوع وكانت لقاءات كل منهما مع الرئيس علي انفراد ومما يؤسف له أن هذه المقابلات لم تسجل لأسباب فنية حالت دون إمكانية التسجيل نظرا لصوت أمواج البحر وصفير الرياح في المكان الذي كانوا يجلسون فيه. جاء حديث عبد الناصر الأول مع سامي الدروبي كما يلي : « كان لابد من إحداث تغيير جذري في الخريطة الاجتماعية لمصر والتي كانت قد وصلت إلي أقصي درجات انحدارها في عام 1952. لقد كان الحكم غارقا في الفساد بأقصي درجة، والحكم هنا يشمل كلا من القصر أي الملك وحاشيته والحكومة وقيادات الأحزاب التي انشغلت بمعاركها الخاصة وتجاهلت المصلحة الوطنية العامة، وكانت المعركة محتدمة بين المجموعات الفدائية وبين الإنجليز في منطقة قناة السويس، لكن الحكومة وعناصر الإنجليز داخل البوليس السياسي المصري كانوا يساهمون في اعتقال الفدائيين والقبض علي العناصر الوطنية من السياسيين من كل الاتجاهات وتزايد حالة السخط الشعبي بسبب الضغوط الاجتماعية والمعيشية والتي أدت في بعض الأحيان إلي انقضاض الفلاحين علي قصور بعض كبار ملاك الأراضي في الريف وتزايد ظاهرة الإضرابات التي شملت كل الفئات من طلبة وعمال بل وشملت أيضا إضرابا لضباط البوليس تم في حديقة الأزبكية بالقاهرة مرتين في بداية الخمسينيات، ولجأت السلطة إلي استخدام العنف فتكونت مجموعات شعبية تبادل العنف بالعنف دفاعا عن أنفسهم، مما هدد بدخول البلد في مواجهة دموية لا يعرف نهايتها أو مصيرها وفقط تهدد البلاد بالضياع. وكان لابد من إحداث تغيير جذري في الخريطة الاجتماعية لمصر، ولكن القضية الأساسية هو إحداث التغيير المطلوب من خلال بلورة عدد من القضايا العامة التي تنبثق عن دوافع وطنية بالدرجة الأولي لضمان توفير الإجماع حول القرار وضمان النجاح في مرحلة التنفيذ، ولو كنت طرحت منذ البداية قضية التحول الاجتماعي أو قضية القومية العربية لدخلت في دائرة عقيمة من الجدل والاختلاف، ولما أمكن تنفيذ الثورة أو الوصول إلي النجاح الذي تحقق فعلا في ليلة 23يوليو1952، لكن ما طرح في البداية كانت قضايا مثل : الملك الفساد الإنجليز الإقطاع الأحزاب السياسية.. وهي كلها قضايا لا يختلف اثنان علي ضرورة حسمها ومهما كانت الأخطار، ومهما اختلفت الميول والاتجاهات التي يتبناها أي مصري وطني. كان هذا عنصر الضمان في توفير الالتقاء ومن ثم توفير القدرة علي التحرك لتحديد الهدف. لقد كانت التركيبة غريبة في حقيقتها، وكانت الجبهة التي تحدثت عنها تضم في داخلها عناصر يمينية وأخري يسارية وثالثة لا تفكر إلا في شيء واحد فقط هو طرد الإنجليز من مصر، بينما تفكر أخري في طرد الملك وتصفية الأحزاب، كان هناك أشخاص يأتلفون معنا ولكنهم كانوا ينفذون مخططا يحقق أهداف تنظيمات ارتبطوا بها في السابق، وكان كل هم هذه التنظيمات هو احتواء الثورة والاستفادة بنتائج تحرك التركيبة المنفذة لها لتحقيق أهدافهم الخاصة التي لم تمكنهم قدراتهم الخاصة من تحقيقها منفردين.والغريب أنه كانت هناك في القوات المسلحة عناصر معروفة بأنها عناصر «كما نسميها بلغتنا العسكرية « فاقدة «، وقد ساعد ذلك كله علي تحقيق المفاجأة.. وللحديث بقية.