لا تنطوي المبادئ الديمقراطية علي الحكم بأن جميع الناس متساوون، ولكنها تقول إنهم جميعاً أعضاء أسرة اجتماعية واحدة متماسكة، وأن رفاهة هذه الأسرة في رفاهة جميع أعضائها لا في رفاهة أقليتها الممتازة ما الديمقراطية؟ قليل من الناس يستطيع الإجابة عن هذا السؤال في حين أن دولاً كثيرة في العالم عاشت في حروب داميه قيل إنها دفاعاً عن الديمقراطية ولا يكاد يمر يوم لا نسمع فيه حديثاً عنها، وإذا تتبعنا أقوال الصحف وما فهمه الناس عن مبادئ الديمقراطية، خرجنا بمجموعة كبيرة من التعريفات المتناقضة والآراء المتباينة. وقد نتفق جميعاً علي أن الديمقراطية يمثلها المبدأ القائل «فرد واحد وصوت واحد» ولكن هل هذا يحقق الديمقراطية؟ الجواب عن ذلك: لا «فإنه وإن كانت الديمقراطية والدكتاتورية تتعارضان، إلا أن أولاهما قد تؤدي إلي الأخري وهي أن يحكم فرد واحد أو حزب واحد حكماً مطلقاً، وهنا يجب أن نتساءل ماذا يحدث إذا توافرت أغلبية الأصوات لفرد أو حزب؟ إنه بدون شك يصبح حاكماً مطلقاً أي ديكتاتوراً». وقد حكم مبارك مصر ثلاثين عاماً باسم الديمقراطية رغم ما كان يدعيه بأن حكمه اتسم بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، الا أن هذا كان مجرد مظهر كاذب لا يتفق مع الحقيقة والواقع، فكانت أجهزة الأمن تقوم بمراقبة الكتاب والصحفيين المعارضين للنظام، وتدبر لهم المؤامرات وتلحق بهم الأذي، وتعتدي علي ممتلكاتهم، وتلاحقهم في أرزاقهم! وكان الحزب الوطني الذي يرأسه هو صاحب الكلمة والسطوة والسيطرة!. نخرج من هذا بأن التصويت ليس وحده دعامة الديمقراطية، فهل تعدد الأحزاب يقيم الميزان الذي يحول دون أخطاء الحكم ومساوئه؟ الجواب أيضاً في هذه الحالة بالنفي، لأن هناك هيئات عديدة ذاتية الحكم ولا تضم أحزاباً مثل الجمعيات والأندية، وعلينا إذن أن نرجع إلي حوادث التاريخ لعلنا نجد فيها تعريفاً اصدق للديمقراطية. إن الديمقراطية ظهرت في بادئ الأمر وسيلة لمناهضة الامتيازات التي كانت تستمتع بها طبقة من الطبقات، أو بعبارة أصح وأدق للوقوف في وجه عدم المساواة في الحقوق. وإنك لتقرأ في كتابي «افلاطون» و«سياسة ارسطو» أن الديمقراطية نشأت خلال نضال الطبقات، ذلك النضال الذي قام بين الأغنياء والفقراء. ويقول أفلاطون إن الفرد العادي يتمتع في ظل الديمقراطية بحرية أوسع، وإن كان يشكو من سوء النظام ومساواة السادة بالعبيد، ويقول أرسطو إن الناس في ظل هذا النظام يتمتعون بقوة وسلطة تزيد علي من هم أرقي منهم. وهكذا يظل النضال بين الطبقات قائماً حتي الملاك فيعملون للقضاء علي الديمقراطية بحجة الدفاع عن انفسهم ولا شك ان في هذه الفكرة ما يشبه الفاشية الحديثة. وهكذا يتضح أن الديمقراطية شنت الحرب علي الامتيازات دفاعاً عن حق المساواة فقابلتها الطبقات الممتازة بهجوم مضاد متذرعة في ذلك بما يوجد بين الناس عادة من تباين في القدرة والمعرفة والنشاط، تلك الفوارق التي قيل إنه يجب معها أن تتباين الحقوق فيكون هناك غني وفقير وسيد ومسود. والديمقراطية الحديثة تماثل الديمقراطية القديمة. فقد نشأت كلتاهما طبقاً لمشيئة الناس بسبب سوء الحكم وكلتاهما تدعوان إلي المساواة في الحقوق، وهي تخضع لمباديء حق الحياة والحرية والمساواة، غير أنها استهدفت للطعن، لأن الطبيعة لم تحدد هذا الحق، وجعلت الناس متباينين، فمن غير المفهوم منطقياً أن يكون مستواهم الاجتماعي متساوياً. ويبدو أن هذا الطعن مما يصعب هدمه لو أخذ علي ظاهره، غير أنه عند النظر السديد يبدو طعناً نظرياً يتنافي مع الحقيقة الواقعة والأخلاق، لأن الديمقراطي لا يكاد يسمعه حتي يتساءل: إن قلت إن بعض الناس أقوي وأذكي من غيرهم فإني أوافقك علي ذلك، ولكني لا استطيع ان أفهم السر في حرمان العامل من الحصول علي أجره كاملاً لمجرد وجود اتحاد لأصحاب المصانع. ودعامة الأخلاق الديمقراطية السليمة هي أن يتمتع جميع أبناء الجنس البشري بمزايا انتمائهم إلي المجتمع، أما مسائل حق التصويت وحدود رقابة الدولة علي الأفراد او الجماعات وغيرها فهي من الأمور الثانوية التي يقرها النظام الديمقراطي، لأنها في الواقع مظاهر آلية وليست أخلاقية، وعلي أية حال فهي وحدها لا تحقق الحكم الديمقراطي، وإن عدت بعض أدواته التي لابد منها لتحقيق اهدافه.