من الطبيعي ألا تشعر الدولة العبرية بأي ومضة حنين لذكري عرفات، وأن تصفه أقلامها تلميحاً بالإرهابي وتصريحاً بمؤجج الثورات والانتفاضات. ففي حياته قامت انتفاضتان كبريان، ومنذ ان غاب لم تقم انتفاضة واحدة برغم قيام مئات الاحتجاجات وأعمال المقاومة. ومن اللافت ان تحرص تغطيات الصحف لهذه الذكري علي عقد مقارنة يومية بين الزعيمين الراحل ياسر عرفات والحالي محمود عباس الذي يحرص دائماً علي تجاور صورته بصورة عرفات وكأنهما السلف والخلف. دائماً ما تصب نتيجة المقارنات الإسرائيلية لصالح عباس علي الرغم من التباغض الواضح علي المستوي الرسمي فهو يظل صاحب نظرية المقاومة السلمية غير المسلحة ورفض عسكرة الانتفاضة ونبذ العنف. علي عكس سلفه الزعيم الراحل عرفات الذي كان يمسك السلاح بيد وغصن الزيتون باليد الأخري. علي يده تحقق اتفاق أوسلو وقامت السلطة الفلسطينية لكنه دفع ثمن تبنيه للكفاح المسلح ورعايته للانتفاضة بمحاصرته وعزله في رام الله ثم قتله بالسم بعدها بعامين. تماماً كما دفع رابين – شريكه الإسرائيلي- حياته مقابل أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية. ومن عجب ان ذكري رابين التاسعة عشر التي حلت في 4نوفمبر، قد مرت باهتة علي سطور الصحافة الإسرائيلية بينما أُفردت الصفحات لإحياء ذكري عرفات العاشرة التي تحل بعد غد. لاتخفي رائحة الشماتة في سطور التحليلات الإسرائيلية في مصير عرفات الذي تبني "العنف" كما لاتخفي رائحة التهديد لعباس بمصير مشابه في ثنايا المديح الذي يلقاه إذا هو فكر في التخلي عن نهجه السلمي. هم يروجون الي أن "قلم" عباس و"لسانه" الذي يطلق التنديدات والتهديدات أمضي من سيف عرفات. ويعتبرون ان تكتيك عباس باللجوء الي المنظمات الدولية والسعي للاعتراف بدولة فلسطين والانضمام للمحكمة الجنائية الدولية من شأنه أن يحرج اسرائيل ويضعها أمام مسؤوليتها التاريخية" والتزاماتها الدولية. وبذلك يصبح أقوي وأكثر فعالية من أسلوب عرفات حين رفض إنهاء الانتفاضة في شرم الشيخ عام 2002 بحضور الرؤساء كلينتون ومبارك ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك - وكأنه بصق في وجوه الجميع - حسب تعبير الكاتب تسڤي برئيل في هاآرتس - فتسبب بذلك في جرجرة أبناء شعبه نحو أتون الموت تحت شعار "عالقدس رايحين .. شهداء بالملايين". وماذا عن أتون الموت الذي يلقونه الآن نتيجة الغارات الاسرائيلية المتكررة ؟ لا أحد يتحدث عن ذلك. سطورهم تتجاهل عن عمد حقائق الوضع الذي خلفه غياب عرفات من تكريس للانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، لأنهم مرتاحون لهذه النتيجة. الإسرائيليون لم يكونوا يحلمون بأفضل مما هو حادث الآن من انفصال جغرافي بين غزة والضفة الغربية، أو انقسام سياسي وصراع علي السلطة بين حماس وفتح. فدكتاتورية عرفات التي ينتقدونها ليل نهار هي التي تجاوزت هذه الخلافات السياسية وكان الرجل قادراً علي احتواء حركة "حماس" دون انتخابات او حكومة، بينما أدت "ديموقراطية" عباس وانتخابات 2006 الي قيام حكومة حمساوية تنازع علي السلطة وتصدر ضجيجاً سياسياً بلا خطر حقيقي علي وجود اسرائيل. في الوسط الفلسطيني تبدو الصورة جاذبة للانتباه. فلدي شباب القدس وثوارها لاتبدو ثمة زعامة إلا زعامة عرفات، وهم يعترفون بأنهم كفروا بالقيادات وسئموا من غياب القدوة ولا يرون في أذهانهم إلا صورة عرفات. في الأحداث الجسام ترتفع صور الزعيم الراحل كنوع من الاحتفاء بالرمز، بينما تنظر الأوساط الثقافية والندوات لهذه الاعترافات باعتبارها دليلاً علي تشرذم المجتمع الفلسطيني بعد عرفات الي وحدات صغيرة منفصلة منكفئة علي ذاتها بحيث لم يعد لما يحدث في القدس ( عاصمة الدولة الفلسطينية) والتي لا تبعد عن رام الله باكثر من 15 كيلومتراً صدي يُسمع في بقية المدن الفلسطينية ولم يعد للحراك هناك أي تأثير عابر لحدود تلك الوحدات الفلسطينية الصغيرة. وتبقي صورة عرفات في مخيلة الفلسطينيين علي أنه موحد الفصائل وزعيم الأمة، بينما هي في مخيلة الإسرائيليين صورة لخصم عنيد تنفسوا الصعداء لغيابه وارتاحوا للتخلص منه وعلي الأرجح كانت لهم يد في هذا الغياب.