ورشة صغيرة لا تتعدي مساحتها بضعة أمتار تضم مئات « الغرابيل » مختلفة الخامات مصنوعة بدقة شديدة بجانب قليل من الادوات البسيطة، ووسط زحام الغرابيل يجلس شعبان عبد الرحيم صاحب الورشة يبلغ من العمر سبعين عاما، وبرغم كبر سنه إلا ان حبه لمهنته جعله يحتفظ بحماس في العمل يفوق حماس الشباب، ورشته الصغيرة تحمل تاريخا يرجع لمئات السنين حيث أجداده الذين اتقنوا هذه المهنة البسيطة وعرفوا بها في حي الجمالية، تكاد لا تراه عيناك لانغماسه وسط « الغرابيل »، وحين تقترب منه تجده منهمكا في عمله،يرتدي نظارته الطبية ويمسك بأدواته البسيطة في يده واضعا احد الغرابيل امامه محتضنها بيديه الضعيفتين . إذا اردت ان تحدثه فعليك ان تنتظر حتي ينتهي من عمله لايترك مابيده إلا بعد ان يكمله وكأنه يقوم بعملية جراحية دقيقة، وحين تجلس بجانبه اثناء عمله وتشاهد دقته الغريبة وتمكنه من صنعته تتزاحم في ذهنك مئات الأسئلة التي لن يجيب عليها الاه، حين تحدثه عن مهنته تجد حبه لها واعتزازه بها سبق كلماته حيث قال « صناعة الغرابيل ليست بالسهولة التي يعتقدها البعض بل هي مهنة تحتاج لدقة شديدة وإلمام كامل بكل تفاصيل الغربال وكيفية جعله اكثر قدرة علي خدمة مستخدمه، فهي مهنة يرجع تاريخها لعصر عمرو بن العاص حيث اول إستخدام للغربال المصنوع من جلد الجمل،ومع مرور السنين تطورت المهنة شيئا فشيئا،حتي أنه اصبح لكل نوع من الحبوب غربال مخصوص مصنوع من مادة تناسب نوع الحب المستخدم،وكذلك بتعدد الأحجام ومقاسات فتحات الغربال حتي يضمن تحليل المادة الموضوعة بداخله جيدا .فالدقيق مثلا يحتاج إلي الغربال المصنوع من الحرير ذي الفتحات الضيقة، اما البقوليات كالفول اوالعدس أو غيره تحتاج إلي الغربال المصنوع من السلك ذيالفتحات الواسعة،. ثقافة عم شعبان الواسعة وإستخدامه لبعض المصطلحات الأجنبية اثناء حديثه عن صناعة الغربال أثار فضولي فسألته عن مؤهلاته وحينها فاجأنا بإبتسامته البشوشة « تخرجت في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وعملت مهندسا مدنييا في كبري الشركات المعمارية» . وحول حياته الاجتماعية قال لدي ولد وبنت وكلاهما متزوج، الولد مرشد سياحي في لندن، والبنت معيدة بالجامعة، لم اهمل صناعة الغرابيل طوال حياتي ولم تعطلني يوما عن دراستي للهندسة، فكلما كان يضيق صدري من سأم الحياة هرولت مسرعا لورشة اجدادي الصغيرة وكأن تلك الغرابيل هم اصدقائي الأوفياء الذين يهونون علي ضيقي، فلم اذكر انني قصدت ورشتي يوما وخرجت منها وانا احمل بقلبي اي ضيق، ولم اشعر يوما بأي تعارض بين الهندسة وصناعة الغربال فالاثنان يحتاجان لفن وحرفية وهدوء ذهني، فكثيرا ماكنت اشعر انني اصنع الغربال بنفس القواعد الهندسية التي استخدمها في البناء المعماري، ثم توقف حماسه في الحديث دقائق وعاد ليكمل كلماته بحسرة قائلا « من اكثر مايحزنني هوشعوري بأن المهنة كادت ان تنقرض، فمع التقدم المذهل الذي اصبحنا نشهده حلت الماكينة محل كل شيء، والغرابيل شأنها شأن أي صناعة يدوية، فكثيرا مااسأل نفسي من سيرعي هذه المهنة بعد وفاتي فلن ابالغ إن وصفت علاقتي بهذه الغرابيل بأبنائي الذين انجبتهم من صلبي» . سحر شيبة