فوز الزميلين عبد الوكيل أبو القاسم وأحمد زغلول بعضوية الجمعية العمومية ل روز اليوسف    النائب أحمد الشرقاوي: قانون إدارة المنشآت الصحية يحتاج إلى حوار مجتمعي    جهاز التنمية الشاملة يوزيع 70 ماكينة حصاد قمح على قرى سوهاج والشرقية    جولة داخل مصنع الورق بمدينة قوص.. 120 ألف طن الطاقة الإنتاجية سنويا بنسبة 25% من السوق المحلي.. والتصدير للسودان وليبيا وسوريا بنحو 20%    "نيويورك تايمز" تتحدث عن لحظة حساسة تخص حادث مروحية رئيسي.. تفاصيل    فرنسا تستثير حفيظة حلفائها بدعوة روسيا لاحتفالات ذكرى إنزال نورماندي    جوميز مدرب الزمالك المصري: نستحق الفوز بلقب الكونفيدرالية    نتائج مواجهات اليوم ببطولة الأمم الإفريقية للساق الواحدة    غدا.. أولى جلسات استئناف المتهم المتسبب في وفاة الفنان أشرف عبد الغفور على حكم حبسه    الحرس الثورى الإيرانى يستخدم قنابل مضيئة فى عملية البحث عن مروحية الرئيس    رئيس «الفنون التشكيلية»: المتاحف الثقافية تزخر ب«كنوز نادرة» وأعمال الرواد    راغب علامة يُروج لأحدث أغانيه.. «شو عامل فيي» | فيديو    عالم بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة    برلماني: قانون إدارة المنشآت لن يمس حقوق المنتفعين بأحكام «التأمين الصحي»    دموع التماسيح.. طليق المتهمة بتخدير طفلها ببورسعيد: "قالت لي أبوس ايدك سامحني"    رئيس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة: جرائم الاحتلال جعلت المجتمع الدولى يناهض إسرائيل    خبير تكنولوجى عن نسخة GPT4o: برامج الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى إغلاق هوليود    أتزوج أم أجعل أمى تحج؟.. وعالم بالأوقاف يجيب    طقس سيئ وارتفاع في درجات الحرارة.. بماذا دعا الرسول في الجو الحار؟    بينها «الجوزاء» و«الميزان».. 5 أبراج محظوظة يوم الإثنين 19 مايو 2024    مع ارتفاع درجات الحرارة.. نصائح للنوم في الطقس الحار بدون استعمال التكييف    الكشف على 1528 حالة في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    تحركات جديدة في ملف الإيجار القديم.. هل ينتهي القانون المثير للجدل؟    الجمعة القادم.. انطلاق الحدث الرياضي Fly over Madinaty للقفز بالمظلات    جدل واسع حول التقارير الإعلامية لتقييم اللياقة العقلية ل«بايدن وترامب»    وزير الأوقاف: الخطاب الديني ليس بعيدًا عن قضايا المجتمع .. وخطب الجمعة تناولت التنمر وحقوق العمال    متحور كورونا الجديد.. مستشار الرئيس يؤكد: لا مبرر للقلق    «النواب» يوافق على مشاركة القطاع الخاص فى تشغيل المنشآت الصحية العامة    كيف هنأت مي عمر شقيقة زوجها ريم بعد زفافها ب48 ساعة؟ (صور)    اقرأ غدًا في «البوابة».. المأساة مستمرة.. نزوح 800 ألف فلسطينى من رفح    ليفاندوفسكى يقود هجوم برشلونة أمام رايو فاليكانو فى الدوري الإسباني    هل يستطيع أبو تريكة العودة لمصر بعد قرار النقض؟ عدلي حسين يجيب    ختام ملتقى الأقصر الدولي في دورته السابعة بمشاركة 20 فنانًا    مدير بطولة أفريقيا للساق الواحدة: مصر تقدم بطولة قوية ونستهدف تنظيم كأس العالم    السائق أوقع بهما.. حبس خادمتين بتهمة سرقة ذهب غادة عبد الرازق    رسائل المسرح للجمهور في عرض "حواديتنا" لفرقة قصر ثقافة العريش    بايرن ميونيخ يعلن رحيل الثنائي الإفريقي    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    افتتاح أولى دورات الحاسب الآلي للأطفال بمكتبة مصر العامة بدمنهور.. صور    نهائي الكونفدرالية.. توافد جماهيري على استاد القاهرة لمساندة الزمالك    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    حكم إعطاء غير المسلم من لحم الأضحية.. الإفتاء توضح    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    رئيس الإسماعيلي ل في الجول: أنهينا أزمة النبريص.. ومشاركته أمام بيراميدز بيد إيهاب جلال    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" في زيارة إلى مدينة العلمين الجديدة    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    «الرعاية الصحية»: طفرة غير مسبوقة في منظومة التأمين الطبي الشامل    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    عرض تجربة مصر في التطوير.. وزير التعليم يتوجه إلى لندن للمشاركة في المنتدى العالمي للتعليم 2024 -تفاصيل    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
الخطأ التاريخي


جميزة بلدنا المهيبة، التي تمتد أذرعتها شرقاً
وغرباً، لكأنها أم تحتضن قرية أنجبتها!!
أنا مخلوق صيفي، أعمل صيفاً، وأبدع صيفاً، وأستقبل الرفاق صيفاً، ولكن حين يأتي الشتاء، أتقنفذ في أغطيتي، وتشلّ حركتي ويتوقف عقلي، وتسد كل منابع الإبداع.
أنا كهوام أرض الصعيد المتشققة التي كانت تنتظر فيضان النيل السنوي أيام كان النيل نيلاً ليغمر تلك الأرض العطشي طوال العام، وما أن تتسرب مياهه في شقوق «الحرَجة» الحرجة هي أرض الصعيد الطميية الخصبة المعطاءة القوية، التي كانوا يسمون أولادهم باسمها «حِراجي» أي الرجل الخصب القوي الخيّر المعطاء مثله مثل «الحَرجَة» تماماً.
المهم.. أن ماء الفيضان حين كان يتسرب إلي شقوق الأرض، كانت الهوام تغادرها بأعداد مهولة، وكنا نتلهي باصطياد العِرس وبقتل الثعابين الرهيبة الطويلة.. طبعاً الرجال هم من كانوا يقتلونها ويأخذون شحمها، فإن قطعة دهنية صغيرة من شحم الثعبان حين تضعه علي شوكة انغرست في قدمك الحافية وما أكثر ما حدث كان هذا كفيلاً بجعل الشوكة تترك انغراسها وتقفز خارجة من اللحم.
كل هذه الهوام وغيرها: العقارب، وأم أربعة وأربعين، وأم شبير في حجم شبر اليد تؤنسنا.. كانت طوال فصل الصيف، ومثلي حين تهل روائح الشتاء تبحث عن جحور قديمة أو جديدة.
قنا.. ربما كانت من أقسي بلاد الصعيد صيفاً، ولذلك حين تهب نسمات هنا أبحث عن قميص أثقل وفي وقت أري الشباب يمشي «بالنص كم» يكون صدري تحت «البلوفر».
ذات صيف «كافر» كما نطلق عليه، دعانا صديق الدراسة فلان إلي رحلة مجهولة وذهبنا معه إلي محطة «قنا» صعد علي برميل وكتب تحت «قنا».. «عذاب النار».. ثم في الركن العلوي كتب بخط أصغر كلمة «يارب»، فصارت «يارب.. قنا عذاب النار».. ظلت فترة، وحين أزالها الكبار ظلت آثار الطلاء فترة طويلة بعد ذلك.
مات والدي في أحد أيام مثل تلك الأصياف القاتلة، وشيعت قنا في ذلك اليوم 21 قتيلاً بالحر.
الصيف هذا العام كان مأزقاً بالنسبة لي، خاصة رطوبته الكثيفة اليومية لإنسان علّته في صدره.
أقول متي يرحل هذا الصيف القاسي، ولكن حين أتخيل إقبال الشتاء يخف سخطي وأرجو الصيف رغم «رزالته» أن يستمر بعض الوقت!!
الخطأ التاريخي
الفساد يبدأ من الريف.. يوم يكف الفلاح عن الدفع من خلف ظهر الحكومة، نتأكد أن الدولة أنهت الفساد المصري الذي صار طابعاً عاماً، كل الإجراءات اليوم بمرّها ومرّها تقع علي رأس المناضل الأول، حاكم مصر الأزلي: «الفلاح المصري»!!
قلت له: «مبروك أنت تبني البيت أخيراً، أخيراً أعطوك التصريح» أجابني بلؤم الفلاحين: «الحمذ لله». أدركت أن وراء الأكمة ما وراءها، ومتي صارح فلاح أفنديا بما يجول بخاطره أو ما يحدث له؟.. دائماً هي الحمد والشكر لله، وربك كريم، «المهم نبني».
حين سألت والده الفلاح القديم الأكبر خبرة بالحياة والرجال مادحاً له عدل الموظف الذي سمح بالبناء خاصة أن الأرض ليست زراعية، أجاب: «ليس المهم أن الأرض زراعية أو غير زراعية، الرشوة أولاً، يحددها هو وعلينا الخضوع، ولا تنتهي المسألة عند الدفع، ولكن الرجل يجعل الباني يوقع علي شكوي غير مؤرخة وإنذار غير موقع يوضع التوقيع عليه حينها بأنه يجب ألا يبني، وأنه في حالة البناء سيهدم البناء علي حسابه مع الغرامات التي يحددها القانون، قبض المال، وحصن نفسه، وليذهب الفلاح إلي الجحيم، وحتي لو جاءت لجنة تعرف الموظف ويعرفها فهم زملاء، فإنها قد تحكم علي البناء بالهدم، ويوقع الفلاح مرة أخري علي أوراق معقدة لا يعرف ما بها وتحمل في طياتها قراراً بالمخالفة وإقراراً بالهدم، ولا يتم كل ذلك ببراءة فبينهم وبين زميلهم ما يسمح بألا نري كيف عالجوا الأمر في مودة الزملاء.
أما الفلاح فيعرف أنه لن يهدم، لكنه سوف يخضع لابتزاز الموظف المهم مرة إثر مرة، وحتي لو انتقل الموظف وإذا ما جاء غيره فإنه يتسلم كل الملفات المغلقة المفتوحة، أما هم فقد بنوا العمارات وصاروا أثرياء بينما الفلاح يمكث تحت بيته الطوبي القبيح قلقاً وخائفاً كدأبه دائماً، منتظراً مجيء المبتز الجديد يطالب الفلاح باستلام موقعه في مأساته.
صورة واحدة من صور السيطرة القاسية علي فلاح يبيع محصوله بأقل مما يجب، يبتزه البنك ذو الابتسامة الظافرة الشيطانية الذي يري الفلاح هائماً في الحقول ينام بين الهوام وتحت قرصات الحشرات وقرصات البرد في الشتاء، والخوف الدائم في الصيف، يبحث عنه رجال تنفيذ الأحكام لسجنه، ناهيك عما يفعلون حين لا يجدونه.
رأيت أمين الفلاحين يقول إن الفلاح لم يكسب إلا بعد ثورتي 25 يناير وثلاثين يونيو وأن 70٪ من فوائد ديون الفلاحين قد أسقطت. قلت لنفسي: لا شك أن هذا حدث في هولندا أو سويسرا.
علي كل حال، ولأن عيد الفلاحين هو عيد لأهلنا لا يعلمون عنه شيئاً، وإذا ما نقلنا إليهم ما قيل لابتسموا في سخرية تعسة وتركوك ومضوا، فهم لا يجهدون أنفسهم بالكلام حين يعرفون أنه لا فائدة منه.
عيد الفلاحين.. رحم الله الرجل الذي يبدو وكأنه اكتشف الفلاح المصري في أحد المناجم القديمة، فأخرجه، وصقله، ووضعه في الواجهة حتي إذا ما رحل راحوا يعرّضونه للرطوبة والشمس والصدأ مرة أخري، ولم يطمئنوا إلا حين اختفت ملامحه تماماً، فأيقن أن عبدالناصر مات، وأن مجيئه كان خطأ تاريخياً!!
الفنارة
في الجلسة الأولي بيننا وبعد حوارات طويلة سياسية وفنية، لم يقل إنه أرسل في طلبي من أجل أن يغير طابعه الغنائي فنبعد أن احتل صوت الفنان محمد رشدي الأذن المصرية بل والعربية بأغنياتنا ذات الطابع الجديد الذي صار سمة الستينيات من القرن الماضي وإنما حاول أن أكتب له أغنية ليوليو تلك التي كان الثلاثي جاهين والطويل وحليم يقدمونها سنوياً بسبب سفر صلاح للعلاج في أمريكا في ذلك الوقت ورفضت شديداً. و...
قلت لعبدالحليم: «قبل أن نتعاون في أي عمل، أنا أريد أن ألامس حرب 56 في أغنية». قال: «نحن في خمسة وستين ولسنا في 56».. وضحكنا، قلت: «هذا شرطي» قال: «أين الأغنية؟» قلت «مع الملحن عبدالعظيم محمد» قال «ولحنتها كمان؟ دا انت بتلوي إيدي، أنا لاأعمل سوي مع عبدالوهاب والموجي والطويل ومنير مراد». قلت «إذا لم تعجبك كلاماً أو لحناً أرفضها ولن أغضب».
بعد يومين كان عبدالحليم حافظ يسجل الأغنية، ومن سوء حظ الأغنية أن النكسة سرعان ما أتت فغمرتها بطوفانها الأسود.
والآن حين أفكر في مشروع قناة السويس، أجدني كتبت أغنيتين لقمّتين من قمم الغناء المصري: عبدالحليم ونجاة، الأغنيتان قابعتان الآن في عتمة مكتبة الإذاعة التي رحل من يعرفون كل شريط فيها: كل أغنية وكل حديث وكل برنامج، وكل الأجيال الجديدة لا تعرف سوي ما سجلت هي، لا أقصد بالرحيل سوي انتهاء العمل بالإذاعة، من مثل: أمينة صبري، بطيشة وكامل البيطار.
أما الرحيل الحقيقي والذي مثّل لنا خسارة كبري فهو الإذاعي الناجح الكبير: وجدي الحكيم رحمه الله.
لقد حضر الحكيم وواكب تسجيل معظم تلك الأغنيات، ويعرف كل كلمة فيها وكل شطرة فقد تمت جميعها علي يده في زمن الإذاعيين العظيمين أحمد سعيد ومحمدعروق علي قصر الفقرة التي تقلد فيها الرئاسة عاش وجدي متنقلاً بين أم كلثوم وعبدالوهاب وحليم وباقي العنقود المدهش من الفنانين والفنانات في زمن الفيض العظيم، ويشكل رحيله خسارة كبيرة فهو أحد أمناء سر مكتبة الإذاعة الثرية التي تغلق أبواب أسرارها علي تاريخها الحافل، ويعرف كل ما أبدع المبدعون ليس فقط في مجال الغناء وإنما في التمثيليات والبرامج التي أثري المكتبة بأعماله في مجالاتها، المهم لقد جرّني الحديث عن خسارة الصديق الحميم وجدي الحكيم الذي كان شاهدي علي كل وقائع علاقتي بالعندليب ودائماً ما كنت أستشهد به وأستنجد حين يحاول البعض التشكيك فيما أقول بعد رحيل عبدالحليم.
المهم غني عبدالحليم أغنية «الفنارة» وهي أغنية تصلح للآن ولمشروع مصر العظيم إلي جانب أغنيات عديدة مثل أغنية محمد عبدالمطلب التي كتبها جاهين ولحنها محمود الشريف «يا سايق الغليون» ولكن من ينقب ومن يبحث؟ كذلك أغنيتي للفنانة الكبيرة «نجاة» التي لحنها الراحل العظيم كمال الطويل «حسب الميعاد»، الإذاعة تغنت بمشروع مصر قبل حتي أن يصبح بذرة، ولكن وكأني أري حركة مقاومة لكل إبداع الماضي العظيم الذي أتمني أن يوفق من يصنعون الغناء الوطني بالإذاعة الآن إلي مطاولته.
وإليكم أغنية «الفنارة» لعبدالحليم حافظ:
يا فنارة لفّي المينا
خلّي السفينة تعدّي
وان سألوكي البحارة
اتعاجبي واقفي ورُدّي:
«دي كنالنا
ودي أراضينا
اتفَّضل شوف يا أخينا»
لفي ووريه يا فنارة!!

يا سفاين فوتي فوتي
في كنالنا الحرة الرايقة
ولو أنّ الدمّ اللّحمر
علي خد الموجة الزرقا
والليل والنار والغارة
وعيال الناس في الحارة
وبنيّة بتبقي يتيمة
وعمارة بتبقي حجارة
لو واحد م البحارة
عاوز يعرف يا فنارة
لفّي ووريه..

في مكان القنابل
بتميل السنابل
في مكان الزوابع
بتدور المصانع
بنعلّي المباني
ونغنّي الأغاني
قتلوا الشمس مرّة
وجبنا الشمس تاني
لو واحد م البحارة
عاوز يعرف يا فنارة
لفي ووريه.
منولوج
سخر السجين من زنزانته واستمع إلي نفسه:
تظنين أنك ضيقة وأنك بهذا الضيق وتحديد عدد الخطوات «تقرفينني» بظلمتك الكئيبة الدائمة، ورائحتي البول والرطوبة، وعرق كل من سبقني من نزلائك، أيتها الجاهلة، في معركة التحدي أطرد هذه العناصر المطبقة جميعها، وكأنني أهش ذبابة لمرة واحدة فتمضي ولاتعود.
تؤنسني في كآبتك الظالمة طبقات الأسماء المطمورة تحت طلاء الجير عاماً بعد عام ودفعة بعد دفعة، كلما تغيرت أنظمة أو تعكر مزاج الحاكم، أو حاول رؤساء الشرطة مجاملته فليس أسهل من الزج بالشباب في تلك التجربة التي لو عرفوا قيمتها وما تغني به أرواح السجناء وقدرتها علي تثبيت إيمانهم بسجنهم واكتشافه واكتشاف احتشاد التحدي في الصدور لما أغلقوا عليهم هذا الباب الكئيب.
يا لهذا الباب الغبي القبيح الذي لم أر قبحاً مكدساً في مثل مساحته من قبل.
ابتسم السجين حذراً وخوفاً من أن يلحق القبح بسمته وواصل:
أعرف أن قبحك مقصود كالإظلام كضيق المكان كالرائحة وسواد القضبان، وتلك النافذة التي تكره الضوء فإذا تسرب لملمته في هرجلة وألقت به بعيداً، نافذة لا تعرف قيمة الضوء وتكره أن تسهم في إدخاله إلي المكان الذي قصدوا أن يضعوها فيه، قاسوا موقعها من الشمس، كيف تُدخل البرد وتطرد الدفء وتلعب دورها في حفل الكآبة الذي لا ينفض.
مسكينة هذه النافذة، لا تعرف أن شريحة السماء الصغيرة أشبه بطائر يحملني يومياً وأكثر من مرة كلما ذهبت لأفرغ إناء بولي، وكلما عدت من رحلة استجواب غبية يغمون خلالها عيني بخرقة قذرة ويجبرونني علي الهرولة وأسمع صوت صفعي أحياناً فقد كنت قررت ألا أحسه ورفضت ألمه النفسي والبدني فكأنه يرن علي قفا آخر، كلما عدت من أمام محقق أبله لا يعرف لماذا أنا هنا، أو يكون التقط فكرة أن الوزير يجامل الرئيس بي وبرفاقي لكي يثبت أن الأمور استتبت بعد إغلاق الزنازين التي لم يرها ولا يعرف تفاصيلها إلا من أفواه ضباط بدرجة مخبرين.
إن قطعة السماء الصغيرة التي لم تستطع أنانية ومكر الزنزانة إخفاءها، ثم إن تلك السحابة المرهقة المهلهلة أشبه ببساط ريح ينقلني بعيداً بعيداً ولا تقدرين أن تمنعي ذلك عني، فالبنيان الحجري الغشيم لا يمكن التغيير أو التبديل فيه كالكتب المقدسة تماماً، أطير منها وأنا مستلق علي فراشي العفن إلي أبواب رائعة حملتها معي من طفولتي تحميني من إيذاء قبح بابك الغشيم الذي تلقي صانعه الأوامر من رجل أغشم فصنع الباب مستوحياً قتامته وقبحه من خشونة الأوامر ولباس الآمر، ووجهه غير المصري الذي تجلس عليه العمامة ويسنده الشارب الضخم.
أتخيل أبوابي الرائعة في قريتي الرائعة أغطي قبحك بها، أبواب بسيطة رائحة صنعتها أيد محبة، مثل عم علي النجار الذي كان في عصر كل يوم يفترش الظلال تحت جميزة بلدنا المهيبة التي تمتد أذرعتها شرقاً وغرباً لكأنها أم تحتضن قرية أنجبتها، عم علي يصنع أبواب قريتنا باباً بعد باب، أبواب جميلة تحمل شبه الحرية والضيافة وأرواح الطيبين وآثار أيدي من رحل ومن بقي، كلما أشعت قبحك في وجهي وهجمت عليّ بكل هذا القبح، قاومتك بأبواب من أحببت هناك في تلك البيوت التي كنت أمد يدي في كوة جدرانها لأرفع سقاطتها، وأدخل كل الأبواب في ذلك الزمان كانت أبوابنا قبل أن يتملك البشر أشياء غير سُرر الجريد، كل تلك الأشياء التي عادوا بها من الكويت وليبيا والسعودية، وما زحموا به البيوت هنا من غسالات وثلاجات ومراوح وأدشاش و...
أغطي غربتي معك بأبواب ساحرة أنتمي لها وتنتمي لطفولتي وصباي، أبواب ساحرة تجبرك إن كنت ذا ذوق وذائقة علي التوقف أمامها مهما كنت متعجلاً، كذلك تلك الأبواب التي صنعها أصدقائي من الفنانين والتي تحتفظ شقتي بالقاهرة ببعض منها أبدعها صديقي الفنان «نبيل غالي» وردة العمارة الإسلامية.
أما أنت أيها السجان المستريب حتي في نفسه والذي ينظر إلي فراشي الكحيان علي مخالفة من نوع ما تبرز من تحت البطانية المتهالكة حائلة اللون والتي تدثر بها وفرشها من قبلي المئات إن لم يكن أكثر من خلق الله الذين أطعمتهم الشرطة لحاكمها مجاملة وتزلفاً ونفاقاً بقصد حماية كاذبة، وكأن خيرة شبان مصر قطع دومينو أو ورق كوتشينة لا قيمة له تقذفه بإهمال علي طاولة المقهي، بمثل هذه الجرائم «الصغيرة» يضمن العسس استمرارهم في وظائفهم وترقيهم، وحتي ذلك المخبر الجاهل الذي يفك الخط «بالعافية».. يفتح عليك الباب ليلاً فيزيد الإظلام إظلاماً ليلقي لك برغيف وبضع زاتونات ويغلق بصرامة ويمضي، يضرب السجناء بقسوة كأننا قتلنا أمه، تغرق يداه في الدم فإذا ما نودي عليه من زميل صاح: «إنت مش شايفني راجع من الشغل؟» وبعد أن يزول الدم تراه من شق صغير بالباب يصلي بابتهال ومستغرقاً في محبة الله علي أساس أن هذا عمل لخدمة الحاكم وخدمته من خدمة الله وطاعته، أتذكر فيلم البريء للرائع وحيد حامد وإيمان أحمد سبع الليل بقتله المثقف الثوري صلاح قابيل بكل الإيمان والمحبة للوطن!!
تعتقدين أيتها الغشيمة أنك سلبت كل متعي في الحياة: الماضية والمستقبلية، تعتقدين أني أقابلها بمرارة الحاقد الناقم. غبية صدقيني إن غباءك هو الذي أظلمك وأصابك بهذه الكآبة المخيمة.
وهل يقبل أي مكان في الدنيا مهما قدمت له من مغريات أن يصبح زنزانة؟ زنزانة خرفاء قتلتها عادية الاستقبال والتوديع فلم تعد تراني أعيش علي عناصري الأساسية كشاعر، أقتات الحرية، وأدرب الجناحين علي المروق من تلك القضبان السوداء لأنطلق في أجواء لا شطآن لها، وفي أرجاء حلم لا يُري، علي الرغم من خضرته التي تخطف العين، والروائح الخاصة جداً، التي تهب حولي من أنفاس أقدم سجين رقد قبلي علي قسوة هذا الأسفلت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.