الإفراط في القسوة والوحشية والانتقام تكاد تكون غريزة في العقل والوجدان الصهيوني ما نشاهده أخيراً من المذابح الاسرائيلية التي نصبت للشعب الفلسطيني، والتي كان من نتائجها وضحاياها الشيوخ والنساء والأطفال، بلا رحمة ولا شفقة سوي الاستخدام المفرط للقوة ضد شعب أعزل.. سلبوه وطنه وحريته وأرضه وأمنه، ويريدون اخراجه من الجغرافيا والتاريخ.. لأكبر دليل علي أن الاسرائيليين وقد ورثوا عن أبائهم وأجدادهم جينات الخيانة والغدر واللؤم.. مازالت تحركهم أحقادهم القديمة ضد من سواهم سواء كانوا عربا أو غير عرب وقد قرأت كتابا للدكتور حسين مؤنس عنوانه «كيف نفهم اليهود» وهو يعبر من خلاله عن رؤية دبلوماسي فرنسي شهير لليهود، وهذا الدبلوماسي هو روجية بيريفت الذي وضع كتابا عنوانه «اليهود» وقد طبع هذا الكتاب بعد ذلك مرات. وهذا المؤلف ليس عدواً لليهود، بل هو اقرب الي أن يكون صديقا لهم، وقد نشر بيريفت كتابة عن اليهود سنة 1968، ويكشف هذا الكتاب كثيراً من الحقائق التي كان اليهود يحرصون اشد الحرص علي الا يعرفها أحد عنهم، وفي هذه الحقائق الكثير من مثالب اليهود أو نقائصهم. وهذا الكتاب كان هو المدخل مع وثائق أخري ليكتب لنا الدكتور حسين مؤنس كتابه الذي يفسر من خلاله مواقف اليهود وتعنتهم وكراهيتهم لكل ماهو غير يهودي، وقهر الآخرين بسلاح الاقتصاد والمال والمؤامرات. ويري الكاتب أن اليهود طائفة دينية وعنصرية نجدها في كل مكان، وعلاقاتها مع الناس وثيقة ومتداخلة، ولكن لا أحد يعرف عن تكوينها شيئاً..! وبينما يعرف اليهود عن الناس كل شئ قل ان نجد انساناً غير يهودي يستطيع ان يقول: إنه يعرف اليهود حق المعرفة أو أنه نفذ اليحقيقة امرهم! ذلك أن اليهود مازالوا - إلي يومنا هذا - طائفة سرية مقلقة علي نفسها تماماً، لها أسرار وأحوال تجتهد في سترها عن الأخرين.. ولعلك تدهش إذا علمت أن التوراه - وهو كتاب دين المفروض أن يكون متداولاً بين الناس - إنما هو في حقيقته كتاب خاص لا يتداول نسخه الكاملة إلا أحبار اليهود، وما بأيدي الناس ليس إلا مختارات ومقتبسات مما صنعها هؤلاء الأحبار لمن يسمونهم العوام.. والمراد بهم هنا عامة الناس. وقد قبلت أوروبا وأمريكا اليهود علي أنهم عقدة عسيرة الفهم ولكنها تنفع في بعض الأحيان، قبلهم الأوربيون. والامريكيون مرغمين لأن الحقيقة التي لا ينكرها أحد بحسب ما في هذا الكتاب - هي ان شعبا من شعوب الغرب لا يحب اليهود حتي في فرنسا والولايات المتحدة - حيث يزعم الناس أنهم لا يفرقون بين نصراني ويهودي - ينظر الناس إلي اليهود في حذر، ويعرفونهم باسرهم وتصرفاتهم ويحملون عليهم فيما بينهم وبين انفسهم حملة تدل عليكراهية عميقة، ولكنهم يحتملونهم لمصلحة او خوف أو حياء أو رغبة في الاستفادة منهم وعن تظاهر بسعة الافق والبعد عن العصبية، ثم انهم ليس لديهم حل لمشكلتهم الا باحتمالهم علي هذا النحو. ويبحر بنا الكتاب الي عالم هؤلاء اليهودوالذي يصورهم علي أنهم جماعة سرية ضخمة لا يعرف الناس عنها الا القليل، ويتحدث عن سلوكياتهم ومواقفهم في المجتمعات التي عاشوا فيها عبر العصور، ويتحدث عن عقدهم النفسية، وأن هدفهم هدم الآخرين بنشر الالحاد والفساد. ويورد الكتاب ما قالته جولدا مائير بعد مأساة مدرسة بحر البقر التي قتل فيها عشرات من الغلمان المصريين الابرياء: ليتنا لم نبق منهم علي أحد! وقد لقيت هذه السيدة بعد ذلك المستر هارولد ويلسون رئيس الوزراة البريطانية ورئيس حزب العمال السابق فسألها: هل قالت ذلك حقا؟ فأجابت بالإيجاب! فقال: هذا أمر سيئ جداً.. ويري الدكتور حسين مؤنس ان اسوأ عيوب الاسرائيليين في ايامنا انهم لا يفهموننا وهم يحسبون انهم يفهمون العرب تمام الفهم. لقد درسوا كل شيء عنا، وكتبوا وبحثوا ولكن العلم شيء والقلب شيء آخر. أما نحن العرب نؤمن بالعلم، ولا نؤمن ابداً بالعنف والحرب واراقة الدماء.. والمسلمون والمسيحيون حقا في ذلك سواء. الشكليات في الدين مازلت اذكر ذلك اليوم البعيد.. يوم التقيت مع الكاتب الكبير توفيق الحكيم، وكنت ازوره عندما كان مريضا بمستشفي (المقاولون العرب).. يومها أخذنا الحديث عن أهمية التمسك بصحيح الدين وليس بالشكليات. وتكلم الرجل وأنا اصغي اليه وهو يتحدث عن هذه الشكليات والتي لها اثار كارثية علي المجتمعات الاسلامية، ويمكن ان أورد تصوره لهذه المشكلة. فقد سألته حول العقل والنقل علي حد تعبير ابن تيميه، وكيف يكون الحكم إذا تعارض العقل مع النقل.. أي مع الإيمان؟ قال الحكيم: إذا تعارض العقل والنقل تأخذ بالايمان لان النظريات العلمية تتغير من عصر الي عصر والإيمان لا يتغير بتغير العصور. فنظرية نيوتن مثلاً غيرتها نظرية اينشتين. فالايمان ثابت وهناك ثوابت في الدين وهناك متغيرات، وكل ما نريد معرفته موجود في القرآن والسنة ولكن يجب ان ندرس الاسلام دراسة اعمق لاننا نأخذ من الاسلام الجانب التلقيني (النصوص) وهذه النصوص لم تفسر تفسيراً جيداً. ويقول توفيق الحكيم: ومن النصوص التي اعجبتني في الاسلام حديث اطلب العلم ولو في الصين).. والغريب ان بعض الفقهاء قالوا ان هذا الحديث موضوع، ولم يأخذ به سوي واحد هو ابو هريرة. وقال الحكيم ايضاً: إنه يجب ان تفهم الاسلام فهما عميقا لانه دين عظيم، فيه من المباديء والقيم والمثل العليا ما يجعلنا في مقدمة الشعوب علما وحضارة وتقدما، ولكن لماذا نأخذ بالشكليات وننسي الجوهر؟! في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن هناك تليفزيون ولا تعليم ولابعض المآكولات الموجودة اليوم.. والاسلام يحرص علي العلم والتقدم فلماذا نحرم هذه الاشياء لانها لم تكن موجودة في عهد الرسول؟! لماذا (نتمسك مثلا (بالجلاليب) ولم تكن الجلاليب خاصة بالمسلمين، فقد كان يلبسها المسلم وغير المسلم. لماذا نتمسك بالذقون، والذقون كان يطلقها المسلم وغير المسلم. فالاسلام مع المنفعة، فإذا ما وجدت شيئا له منفعة يجب ان تأخذ به، وإذا وجدنا شيئا ليس له منفعة نبتعد عنه.. هذا هو الجوهر، والقاعدة الاسلامية تقول: لا ضرر ولا ضرار، وهذا هو الاسلام واستمع إلي توفيق الحكيم وهو يعرض بعض مظاهر حياتنا اليوم ويعلق عليها ويبدي رأيه فيها: «الغريب ان بعض المحجبات وقد دخلن كلية الطب مثلا ولم يكن في عهد الرسول كلية للطب فلماذا دخلن كلية الطب! ونفس هذه المحجبة إذا تزوجت طالبت أهلها بجهاز مرهق لاسرتها، ومنهن من تطلب حجرة نوم بثمن باهظ، فإذا قلنا لها أن في عهد الرسول عليه السلام كانت تتزوج بحجرة نوم عادية تقول لك انها تأخذ بالعرف. لانها لا تقل عن غيرها. وهذا ضرر وإرهاق لميزانية الاسرة.. فهي لا تري بالضرر هنا.. ومع ذلك يتحجبن حجابا يخفيكل معالم شخصيتها ووجهها.. مع ان الاسلام يبيح لها أن تظهر الوجه واليدين.!» هذه بعض افكار الكاتب الكبير.. فمن يسمع ومن يجيب! بين علي أمين وشوبنهاور علي أمين.. كاتب كبير.. كتاباته متفائلة، وكان يحب أمه.. ومن هنا أحب كل أم وأقام لها عيدا لعل الأبناء يتذكرون أن الجنة تحت أقدام الامهات. وشوبنهاور فيلسوف الماني كبير، وكان متشائماً.. وكان يكره أمه.. ويمكن أن نلخص فلسفته كلها في جملة واحدة: الحياة إرادة. عقدت هذه المقارنة بيني وبين نفسيوأنا أقرأ عن حياة وفلسفة شوبنهاور.. ورغم أنه كان نجما في عالم الفلسفة، فقد قالت أمه عن أحد كتبه: إنه يقع في مسمعي كأنه كتاب في العقاقير! ونظر إليها الابن وهو يقول لها في هدوء: سوف «يقرأ الكتاب يا أماه، بعد ان تكون كتبك قد اختفت حتي من أكوام القمامة!» وأذكر انني قابلت الكاتب الكبير علي أمين، وأجريت معه حواراً حول عيد الام الذي تبني فكرته، وكان من ضمن اسئلتي له: قدم كلمة للذين فقدوا حنان الامومة في عيد الام. قال: هاجم بعض الكتاب فكرة عيد الام لانها تذكر اليتامي بأمهاتهم.. فيذرفون عليهن الدموع..وهذه الدموع لا تحرق قلوب اليتامي.. انما تنقيها وتهذبها. وأنا اذهب كل يوم 31 مارس الي قبر أمي.. وأضع عليه باقة من الورود، وأقرأ لها الفاتحة ثم أقول لها: شكراً يا أمي. وفي نفس الوقت ابحث عن أم تغيب ابنها، وأحاول ان اسعدها اليوم نيابة عن ولدها. واذكر انني تركت الكاتب الكبير علي أمين الذي جعل من 31 مارس قاعدة ضخمة تنطلق منها اجمل ما في الحياة من قيم ومثل، وإخلاص ووفاء للام، واهبة الدنيا وصانعة الحياة، وكأني اسمع حفيف قلمه يوم كتب: « إنني اشعر ان سيدنا رضوان، لن يتركني طويلا في طابور الواقفين امام الجنة. لن يطالبني بتقديم اوراق تحقيق الشخصية وشهادة حسن السير والسلوك.. لن يحولني الي قسم المراجعة والحسابات.. إن تفاؤلي يوهمني بأنني سأدخل الجنة.. ونجاح فكرة عيد الام في بلادي.. هذه تذكرة الدخول الي الجنة التي سأقدمها الي سيدنا رضوان. وما أوسع الفارق بين الذين يعترفون بجميل الام فيفرشون طريق حياتها بالورود، والذين لا يعترفون بقيمة الحنان الخالد فتصبح حياتهم كالجحيم. جمال العطاء ضرب الرئيس عبدالفتاح السيسي مثلا جميلا للعطاء عندما تنازل عن نصف مرتبه وجزء من ميراثه من اجل انعاش اقتصاد مصر. والعطاء فيه جمال، حتي أن أحد النقاد اعتبر بيتا من الشعر يجمع بين العطاء والشجاعة من اجود ما قيل في الشعر العربيوهو قول الشاعر. ألستم خيرمن ركب المطايا وأندي العالمين بطون راح ويسوق كاتبنا الكبير عباس محمودالعقاد فيكتابه ذوالنورين عثمان بن عفان عن جمال العطاء عند سيدنا عثمان رضي الله عنه فيقول: «وكانت له سماحة محببة حيث يجودويتكلم بكلام التجار فيمساومتهم علي غاية الجود. قال ابن عباس: «قحط الناس في زمن ابي بكر فقال ابو بكر لا تمسونا حتي يفرج الله عنكم، فلما كان من الغد جاء البشير اليه فقال: لقد قدمت لعثمان الف راحلة برا وطعاماً، فغدا التجار علي عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج اليهم وعليه ملاءة قدخالف بين طرفيها علي عاتقه، فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: بلغنا أنه قدم لك الف راحلة برا وطعاماً.. بعنا حتي نوسع علي فقراء المدينة، فقال لهم عثمان ادخلوا، فدخلوا فإذا ألف وقر قد صب في الدار، فقال لهم: كم تربحوني علي شرائي من الشام؟ قالوا: العشرة اثني عشر. قال: قد زادوني.. قالوا العشرة اربعة عشر. قال: قد زادوني قالوا العشرة خمسة عشر. قال: قد زادوني. قالوا:من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادوني بكل درهم عشرة.. هل عندكم زيادة؟ قالوا: لا قال: فاشهدكم معشر التجار أنها صدقة علي فقراء المدينة» ويعلق العقاد علي ذلك بقوله: ويشير عثمان هنا - كما هو ظاهر - الي جزاء الحسنة بعشرة أمثالها عند الله، ولن تعدم في هذا المقام ابتسامه سخف عن فم متحذلق يقول: اما أعطي عطاءه وهو ينتظر الجزاء في الآخرة؟ فلقد آمن الوف من ذوي الأموال التي لا تفني، وهم لا يبضون بدرهم يوقنون من جزائه ما أيقنه عثمان. كلمة مضيئة ليس اليتيم من انتهي أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقي له اما تخلت أو أبا مشغولاً شوقي