وقعنا مع إسرائيل علي معاهدة سلام.. لكننا نفاجأ بين فترة وأخري بسقوط »جاسوس« لحساب إسرائيل في أيدي الأمن المصري الذي يسلمه للنيابة، التي تحيله إلي المحاكمة لتقضي بعقابه علي الجرم الذي ارتكبه. وكالعادة.. تسارع الأبواق الإسرائيلية للتشكيك في صحة الاتهام، أو حتي تزعم أنها تسمع اسم الجاسوس لأول مرة، زيادة من جانبها في إنكار الجريمة أصلا (..) مزاعم إسرائيل لم نهتم بالرد عليها. جهاز الأمن القومي ليس في حاجة إلي اختلاق جواسيس، وليس مطلوباً منه أن يكشف عن الأدلة التي ووجه الجاسوس بها واضطر إلي الاعتراف بارتكابها وهو الاعتراف الذي كرره أمام النيابة، أو أنكره، لكن الأدلة ضده كانت كافية جداً من وجهة نظر النيابة لمحاكمته، ثم إدانته. ما فعلته إسرائيل معنا هو نفسه تقريباً الذي تفعله روسيا، في هذه الأيام، مع الولاياتالمتحدة ، وبعد سنوات عديدة علي انتهاء الحرب الباردة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي. في الأسبوع الماضي قام الرئيس الروسي:»ديمتري ميدفيديف« بزيارة رسمية، ودّية، للولايات المتحدة في نهاية يونيو الماضي تأكيداً لحرارة العلاقات القوية التي تجمع بين البلدين الصديقين، والمتحالفين ضد بعض القضايا والتحديات العالمية، وإن اختلفا بالنسبة لقضايا أخري لكن الخلاف بينهما يظل محصوراً في الرأي كحق معترف به من كليهما. من اللقطات التي رأيناها علي شاشة التليفزيون في تغطيته للزيارة المهمة ظهرت صورة يظهر فيها الرئيسان الأمريكي والروسي يتجولان في حديقة البيت الأبيض، وقد خلعا »الجاكيت« وأمسكا به علي الكتف اليمني لكل منهما، وبنفس الأصابع! صورة معبرة عن نجاح الزيارة، وعن القبول الذي يكنه كلاهما للآخر. كما أن التصريحات التي أدليا بها للصحفيين في نهاية اللقاء جاءت هي الأخري متشابهة، وتؤكد تطابق وجهتي النظر الأمريكية والروسية في العديد من القضايا الدولية التي لم تحسم نتائجها بعد. وكأن هذه »الحميمية« حقيقية أو مظهرية في العلاقات الثنائية بين البلدين، لم تأت علي هوي البعض في الإدارة الأمريكية. فبعد ساعات معدودة علي مغادرة الرئيس الروسي عائداً إلي موسكو قرر هذا البعض أن يتصدي لهذه »الحميمية«، ربما لإثبات زيفها، وقام برفع الستار عن أغرب، وأعجب، قضية جاسوسية داخل الولاياتالمتحدة ولحساب المخابرات الروسية! في بيان ل (FBI) مكتب التحقيقات الفيدرالي جاء فيه أنه تم القبض علي 10أفراد متهمين بتشكيل شبكة تجسس ضد الأمن القومي الأمريكي، ولحساب المخابرات الروسية. وأن البحث جار حالياً للقبض علي جاسوس من نفس الشبكة تمكن من الهروب. وكشف البيان عن تعدد جنسيات المتهمين. منهم من يحمل الجنسية الأمريكية، ومنهم من يحمل الجنسية الكندية، ومنهم أيضاً من يحمل هوية »بيرو«، جنباً إلي جنب احتفاظهم بجنسيتهم الأصلية: الروسية. الجديد في القضية أن الشبكة تضم 5 رجال و5 نساء أزواجا وزوجات .. كما تقول الأوراق والمفترض أنهم لا يتزاورون، ولا يظهرون معاً زيادة في التعتيم علي نشاطهم السري. وجودهم، واتصالاتهم، ومعاملاتهم لسنوات عديدة في مدن مختلفة من الولاياتالمتحدة، لم تلفت نظر أحد من جيرانهم أو معارفهم في جهات العمل. فقد أختيروا ليقيموا في الولاياتالمتحدة مثلهم مثل ملايين الأسر الأمريكية: معيشة متواضعة، ووظائف عادية. رغم الدوي الهائل الذي أحدثه هذا البيان سواء في أمريكا أو روسيا.. مع اختلافهما في التبرير أو التسخيف إلاّ إن كبري الصحف الأمريكية»نيويورك تايمز« فاجأت هؤلاء، وأولئك، وغيرهم ، بمعلومات عن القضية نشرت يوم 30يونيو الماضي تؤكد فيها أنه رغم مرور 10سنوات علي تشكيل، ونشاط، شبكة التجسس.. إلاّ أنها أي الشبكة لم تتحصل علي »سر« مهم وخطير سياسي، أو عسكري، أو اقتصادي يمكن أن يضر بالأمن القومي الأمريكي! ولعل هذه الحقيقة هي السبب وراء إسراع البيت الأبيض الأمريكي، و الكرملين الروسي إلي التأكيد علي أن الكشف عن شبكة التجسس لم، ولن، يؤثر علي متانة العلاقات الحالية بين البلدين. الصحافة الروسية كان لها وجهة نظر مختلفة عن الكرملين. حقيقة أنها أي الصحف لم يهاجم بعضها الرئيس الأمريكي »باراك أوباما« ولا إدارته، لكن حقيقة أيضاً أنها شنت هجوماً ساخراً، وعنيفاً، ضد المحافظين الذين يكرهون الروس ، وضد أجهزة الأمن الأمريكية خاصة ال (إف. بي. آي) التي كشفت عن الجواسيس الروس. صحيفة »موسكوفسكي كومسوموليتلز« لخصت الفضيحة في أنها »تذكّرنا بالأحداث العظمي في تاريخ الحرب الباردة. مؤلفو السيناريو استرجعوا روح أسخف أفلام الجاسوسية في القرن الماضي عند كتابة السيناريو الحالي. فنحن أمام لقاءات سرية في محطة مترو، واستخدام هوية كندية لصاحبها الميت، واستخدام الحبر السري في كتابة التقارير، إلي جانب إضفاء بعض صفات »جيمس بوند« علي رجال ال (إف. بي.آي) خلال إيقاعهم بأعضاء الشبكة! أما صحيفة »كوميرسانت« فقد سخرت بدورها من القضية برمتها، ووجهت سؤالاً واحداً إلي مكتب التحقيقات الفيدرالي إف. بي. آي يقول: »نريد أن تحددوا لنا الأسرار المحظور معرفتها أو تناقلها التي قيل إن أفراد شبكة التجسس حصلوا عليها، وتهدد الأمن القومي الأمريكي؟!«. وأضافت الصحيفة إن الروس تعودوا خلال ال15عاماً الماضية علي الكشف عن قضايا جاسوسية قيل إن الروس قاموا بها ضد الولاياتالمتحدة.. لكن قضية اليوم تعتبر أسخفها جميعاً، ولا تستحق من الروس قبل سواهم إعارتها أدني اهتمام، أو تعليق! صحيفة »جازيتا« تصدت للمحافظين الأمريكيين الذين يرفضون السياسة الخارجية للرئيس أوباما. فهي تتهمهم بأنهم »يكرهون روسيا منذ عهود طويلة ماضية، وحتي الآن. وهم ليسوا علي استعداد لفتح صفحة جديدة »علي الزيرو« مع روسيا اليوم. ولعلها ليست صدفة أن يعلن عن اكتشاف شبكة تجسس روسية في الولاياتالمتحدة، فور انتهاء زيارة الرئيس الروسي لأمريكا ومباحثاته مع الرئيس الأمريكي.. وهو توقيت أحسن المحافظون الجدد في أمريكا اختياره للتذكير بكراهيتهم لروسيا. واختتمت »جازيتا« تعليقها قائلة:»إن هذه القضية ليست فصلاً من فصول الحرب الباردة كانت أو الساخنة وإنما هي نوع من أردأ أنواع الكراهية. ورداً علي سخرية الصحافة الروسية لم يكن مقبولاً من مكتب التحقيقات الفيدرالي استمرار الصمت اكتفاءً بالبيانات السابقة التي أعلنها، ورددها عبر أجهزة الإعلام. وفي تصريح أخير لمتحدث باسم ال (إف. بي. آي) جاء فيه أن المكتب كان يتابع تحركات أعضاء الشبكة طوال السنوات العديدة الماضية، حرصاً منه علي التأكد من مصداقية وأدلة القضية. وأوضح المصدر أن المخابرات الروسية اختارت أزواجاً وزوجات يقيمون في الولاياتالمتحدة، وبتخصصات وظيفية مختلفة، وحددت لهم ولهن مهمة واحدة هي: اختراق الحلقة السياسية القريبة من الإدارة الأمريكية، وإقامة علاقات ودية وتبادلية مع أكبر عدد منهم. الطريف أن هذا التصريح الأخير لم يرد بكلمة، ولا بإشارة، علي السؤال المهم الذي طرحه كثيرون ويطالب ال (FBI) بالكشف عن سر واحد مهم، وخطير، نجح المتهمون في الحصول عليه علي طريقة أفلام جيمس بوند ونقلوه إلي موسكو لتهدد به أمريكا؟!