عندما كنت ملحقاً عسكرياً في تركيا .. حضرت إلي القاهرة مرافقاً لرئيس الأركان التركي الذي حضر في زيارة رسمية إلي مصر.. وكان أحد أهم برامج هذه الزيارة.. بانوراما حرب أكتوبر 1973. وبقدر انبهار الضيف بالمكان.. وكيف عبر عن نجاح الجيش المصري وانتصاره في أحدث حرب في التاريخ الحديث.. إلا أنني خرجت من تلك الزيارة وأنا مصاب بمسحة من الحزن والألم لأني فجأة وجدت أن صورة الفريق سعد الشاذلي قد تم نزعها وإزالتها من صورة الحرب في مركز العمليات.. كيف ذلك.. وأنا كنت أحد الموجودين في مركز العمليات خلال الحرب.. بل شهدت لحظة التقاط الصورة في المركز.. ونظراً لصغر رتبتي حيث كنت برتبة رائد.. فلقد وقفت في الاتجاه الآخر.. أنظر لهؤلاء الأبطال العظام الذين صنعوا نصر أكتوبر العظيم. ولكن بعد ثورة يناير .. أمر المشير طنطاوي وهو أحد أبطال هذه الحرب.. بأن يعود للفريق سعد الشاذلي دوره ومكانه في بانوراما حرب أكتوبر 1973. ولقد تعرض الفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في فترة التخطيط وإدارة حرب أكتوبر 1973.. إلي ظلم شديد فادح.. ففي الوقت الذي كانت فيه مصر تكرم أبطال حرب أكتوبر في مجلس الشعب.. كان ذلك الرجل يجلس وحيداً.. في منزله يشاهد شاشة التليفزيون المصري.. وهو ينقل مشاهد التكريم.. وهو بعيداً عنه كأنه لم يساهم أو يشارك في هذا الدور العظيم الذي قامت به القوات المسلحة المصرية في أعظم حروبها عبر التاريخ وهي حرب أكتوبر 1973. وسوف نتناول اليوم دور.. أو عمل عظيم.. رائع أداه الفريق سعد الشاذلي ضمن أعمال عديدة في مرحلة التخطيط للحرب.. وإن كنت أري من وجهة نظري الشخصية أنها كانت العنصر الرئيسي في خطة الهجوم المصرية لاقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف.. وهو ما سمي بالتوجيه 41.. الذي حفظه عن ظهر قلب.. كل جندي.. وضابط.. وقائد.. شارك في اقتحام قناة السويس يوم السادس من أكتوبر 1973.. ومن خلاله تم إنشاء رؤوس الكباري بخمس فرق مشاة مصرية في 6 ساعات.. ولقد بدأ التفكير في إصدار ذلك التوجيه عندما كان الفريق سعد الشاذلي يراجع خطة العملية الهجومية.. لاقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف.. ووجد أن هناك العديد من المشاكل التي تعوق وتؤثر في التخطيط للعملية الهجومية.. فأصدر أوامره بتشكيل لجنة خاصة لإعداد هذا التوجيه ليكون منهاجاً لخطة الحرب. وأتذكر وأنا طالب في كلية أركان حرب.. في منتصف عام 1973 وقبل الحرب بأشهر قليلة.. أن أبلغنا مدير الكلية.. أن الفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة سيزور الكلية وسيقضي يوماً كاملاً مع الطلبة الدارسين لكي نناقش معه التوجيه 41 وهي الخطة التفصيلية لعبور واقتحام قناة السويس.. كان قرار الفريق سعد الشاذلي بإشراك طلبة كلية أركان حرب قراراً سليماً.. لمناقشة تفاصيل هذه الخطة بصورة نهائية.. أولاً لأن الدارسين في كلية أركان الحرب في هذا التوقيت كانوا نخبة متميزة من ضباط القوات المسلحة.. وثانياً أن هؤلاء الدارسين هم من كافة الأفرع والقيادات والأسلحة الرئيسية والمعاونة والإدارية في القوات المسلحة. وتم توزيع مسودة التوجيه 41 علي جميع الدارسين قبل اللقاء بعدة أيام.. قمنا بدراسته.. بالتفصيل.. وكنا نظل ندرس ونتناقش في الكلية يومياً.. حتي وقت متأخر. ولقد حققت هذه المناقشات داخل الكلية لنا كطلبة دارسين من مختلف الأسلحة والتخصصات التنسيق المتكامل.. المبني علي الفهم العلمي.. الأكاديمي.. لكافة مراحل العبور.. واقتحام النقاط القوية.. وصد الاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية.. ومطالب كل مرحلة من مراحل العبور. ولقد بدأ الفريق سعد الشاذلي هذا التوجيه بوضع كافة المشاكل.. والمصاعب أمام المخطط المصري لعبور القناة وتدمير خط بارليف.. وكان أمام مجموعة العمل أن تضع الحلول أمام كل مشكلة.. فلقد كانت أعقد المشاكل التي قابلت المجموعة هو الساتر الترابي علي الضفة الشرقية للقناة.. التي يحتلها الجانب الإسرائيلي.. وأدي ذلك إلي اقتراح ضرورة بناء نقاط قوية مرتفعة مزودة بمصاطب دبابات علي الضفة الغربية للقناة.. تسمح للجانب المصري أن يؤمن قواته التي تعبر القناة بالنيران والمعلومات. وأتذكر أن موشيه ديان عندما شاهد الجنود المصريين يقومون ببناء هذه النقاط سخر منهم.. وأمام وكالات الأنباء.. قائلاً إن المصريين دائماً مغرمين ببناء الأهرام. وأمام مشكلة عمل فتحات في الساتر الترابي أمام الكباري.. فكان أحد أعظم الحلول التي وضعها المفكر المصري.. وهو استخدام خراطيم المياه.. والتي تم نقل فكرتها أثناء بناء السد العالي في أسوان. ثم جاءت مشكلة اقتحام النقاط القوية الإسرائيلية في خط بارليف.. حيث تم تكوين قوات خاصة لمهاجمة هذه النقاط اعتمد تكوينها.. علي حجم النقطة وتسليحها.. وعدد الدبابات الموجودة بها.. وشكل وحجم المواقع الدفاعية التي تحوط بهذه المنطقة.. وبالتالي.. خرجت الخطة بشكل وأسلوب الهجوم .. سواء بالمواجهة.. أو علي الأجناب.. أو من الخلف.. طبقاً لطبيعة دفاعاتها.. وهكذا يمكن القول أن هذا التخطيط الدقيق.. المبني علي معلومات دقيقة.. تفصيلية.. كان من أهم عوامل نجاح عملية التنفيذ. كما تناول التوجيه أساليب مهاجمة نقاط خط بارليف.. ومجموعات فتح الثغرات في الساتر الترابي.. وعمل مجموعات إغلاق أنابيب النابالم.. وتوقيت وأسلوب دفع مجموعات المفارز المصرية المتقدمة التي ستحتل مصاطب الدبابات الإسرائيلية علي الضفة الشرقية للقناة لمنعها من التدخل ضد قوات العبور.. ثم عمل مجموعات الدخان لعمل ستائر تعمية مناطق المعابر. . كما ركز التوجيه 41 علي توقيتات عبور القادة علي جميع المستويات.. كما شمل التوجيه 41 علي تصميم سترة خاصة لكل جندي يرتديها لتناسب ما يحمله من الأسلحة والذخائر والألغام. ويمكن القول أن هذه المناقشات كانت تفصيلية إلي أكبر درجة ممكنة.. وأدارها بالكامل الفريق سعد الشاذلي الذي كان ملماً بكل التفاصيل الدقيقة.. وسمح بنقاش ديمقراطي.. علمي.. عسكري.. ميداني.. سمح لكل الأطراف بعرض رأيها.. دون رهبة.. أو خوف.. فالكل كان يعلم أن مصر هي الهدف.. ولذلك كان هذا اللقاء مع طلبة كلية أركان حرب هو بمثابة المراجعة النهائية للخطة التفصيلية للعبور "التوجيه 41" بعدها تم إصداره في خطط تفصيلية للقوات المشتركة في عبور القناة. . تلك كانت لمسة سريعة.. لعمل عظيم.. ربما لم يتحدث عنه أحد من قبل نظراً للظروف التي مر بها الفريق سعد الشاذلي رحمه الله.. ولكني أعتقد أنه جاء الوقت لكي يكرم هذا القائد العظيم.. بالتكريم اللائق.. الذي حرم منه في حياته.. ولا يبقي إلا أن نقول.. أن أعمال العظماء دائماً تبقي.. وتظل محفورة في الأذهان.. وأن الفريق سعد الدين الشاذلي.. بكل ما قدمه من عطاء.. وفكر.. وإخلاص.. علي مدي مشواره الطويل في القوات المسلحة.. وخاصة في حرب 1967.. وحرب الاستنزاف.. وأخيراً في فترة رئاسته لهيئة أركان حرب القوات المسلحة المصرية في مرحلة التخطيط النهائي لحرب أكتوبر ومرحلة إدارة عمليات العبور حتي تحقيق النصر.. سيظل رمزاً عظيماً.. وقائداً متميزاً.. أعطي لمصر الكثير.. وسيظل في ذاكرة الأمة المصرية والجيش المصري بطلاً قومياً عظيماً.. مفكراً.. ومخططاً.. وقائداً.. مخلصاً.. أعطي لمصر.. ولقواتها المسلحة.. الجهد والعطاء.. ولكننا ما زلنا ننتظر أن تعطيه مصر وقواتها المسلحة.. حقه.. ومكانته التي يستحقها.