العالم يتغير . وكل شيء من حولنا يتغير معه . وأهل زمان الذين نصحوا بالبحث عن الحكمة لدي الشيوخ بما لديهم من خبرة السنين ، لم يكن أحد منهم يتصور ان التطور سينال من معايير وضعها الإنسان ، وظلت ثابتة منذ ظهوره علي وجه الأرض . إلي عهد قريب ، كنا نتصور أن الحكيم هو كبير السن الذي يقوده عقله الراجح إلي إسداء النصح لغيره ، وتقديم المشورة لمن حوله . وتؤهله خبرة السنين إلي التنبؤ - إلي حد ما - بردود فعل قرار خاطئ ، أو سلوك يتعارض مع القيم السائدة . كنا نتصور أن حكمته تؤهله للتعامل مع منغصات الحياة اليومية ، فينجح بخبرته في تجنب آثارها السلبية . والخبرة هنا لا تُكتسب بالعلم وحده ، فرب مزارع أمي لم يغادر قريته يوما ، أكثر حكمة من عالم حاصل علي جائزة نوبل . كان هذا مفهومنا عن الحكيم .. ثم تبين أننا آخر من يعلم . أورسولا شتاودينجر الباحثة في جامعة جاكوبس الألمانية أجرت دراسة علمية حول »الحكمة« أصابتني نتائجها بالإحباط . نتائج الدراسة كشفت أن 1٪ فقط من كبار السن يمكن وصفهم بالحكماء . وأن الشيوخ امثالي ليسوا بالضرورة أكثر حكمة من الشباب . أي أن الحكمة ليست مرتبطة بتقدم السن. وباختصار ، فإن الدراسة دفعت بالصغار إلي صفوف الحكماء .. وجرجرت العواجيز الي الخلف ! وبمعايير أورسولا ، فإن سنوات عمري التي مضت ضاعت كلها هباء . لم أكتسب فيها أي قدر من بُعد النظر ، ولا التنبؤ بنتائج تعتمد علي خبراتي في الحياة ، وأسقط في نفس الحفرة أكثر من مرة .. في عز النهار ! لقد تصورت انني حكيم لمجرد أن شعري ناصع البياض. وبناء علي ذلك أهلتني حكمتي المزعومة إلي توقع أن امتحانات الثانوية العامة هذا العام ستخلو من بكاء وصراخ الطلاب ، وندب وعويل أولياء أمورهم . هذا التوقع لم يأت من فراغ ، وإنما لأنه أول امتحان للثانوية العامة في عهد الوزير أحمد زكي بدر الذي أؤمن به وأصدقه ، وألمس حسن نواياه ورغبته الصادقة في إصلاح حال التعليم بدءاً بتطوير نظام الامتحانات . ثم أصبت بالصدمة ، بعد امتحانات اللغة الانجليزية ، ،والتفاضل، وحساب المثلثات لأنني اكتشفت أن توقعاتي كانت فشنك .. وأنها لا تستند إلي الحكمة .. بل هي من علامات الشيخوخة ! وعندما ارتفع سعر كيلو اللحمة إلي 06 جنيها شاملة الدهن والشغت لدي الجزار ، و 08 جنيهاً للملفوف بالسلوفان لدي محلات السوبر ماركت ، سألوني عن رأيي فأجبت بلغة الحكيم الواثق : اطمئنوا . هي ظاهرة مؤقتة أسبابها معلومة تعرفها الحكومة جيداً ، وستقضي عليها قريبا جداً ، ثم يعود السعر الي ما كان عليه . ولكن الواقع الأليم أفسد نبوءتي ، وأهدر حكمتي ، وبقيت الأسعار علي حالها . وفقا لمعايير أورسولا فإن حفيدي عبد الرحمن البالغ من العمر 02 شهراً أكثر حكمة مني ، فعندما وضع »بنسة« الشعر داخل مقبس الكهرباء وأحس بالتيار يسري في جسده الصغير ، أدرك الخطر ولم يلمس بعدها »بنسة« الشعر أبداً . يراها أمامه فيعطيها ظهره ويسير في الاتجاه الآخر . وكلما التقي بإنسان يشير الي مقبس الكهرباء من بعيد ويحذره قائلا : »واوا« . لقد استفاد من الدرس وقادته حكمته الي تحذير الآخرين حتي لا يقعوا في الفخ الذي وقع فيه .. منتهي الحكمة !