مصر أم ولود، يستشهد ابنها البطل فتلد عدداً آخر من الأبطال، فهي محاطة بسحابة من الشهداء الذين استشهدوا في سبيلها. ونتغرب عن الوطن لكن تظل محبته في قلوبنا. فمحبة الوطن عقيدة راسخة عند المصريين الأوفياء يهون جنبها الموت. لقد استعذب المصريون - في مختلف العصور - الألم واستهانوا بالموت من أجل عِظم محبتهم لمصر. النماذج كثيرة والصور متنوعة، من بينها في القرن الثالث الميلادي كان هناك جندي مصري يُدعي "بيجول" (الذي يعني شهد العسل) من إحدي قري المنيا. كان هذا الجندي قد ترك الوثنية وآمن بالمسيحية فتعرض لاضطهادات الأمبراطور دقلديانوس (284 - 305م). وفي شدة غضب الامبراطور بسبب استهانة بيجول بالآلام والعذابات، حاول الامبراطور المساس بوطن الجندي بيجول، فصاح قائلاً: (الويل لأرض مصر التي جئت منها)، وهنا يفيق بيجول من وسط عذاباته والامه علي اسم مصر، فرد الجندي الشجاع المخلص لوطنه وكنيسته وقال للامبراطور: (لا تسب أرض مصر). فازداد الامبراطور شراسة، ونهض من علي كرسيه وأمر الحاضرين أن يضربوه، وانتهي الأمر باستشهاده. أذكر أنه في عام 1986 كنت في مهمة علمية بقسم الرياضيات التطبيقية بجامعة ليفربول بإنجلترا موفداً من جامعة الإسكندرية بتمويل من المركز الثقافي البريطاني بالإسكندرية، ولارتباطي الشديد بالمصريات كنت من وقت لآخر أقضي بعض الوقت بقسم المصريات بالجامعة ومن هنا تولدت صداقة بيني وبين أستاذ المصريات بالجامعة بروفسور آرثر شور، وتعددت اللقاءات بيننا. كان بروفسور شور متخصصاً في كتابات الأنبا شنوده رئيس المتوحدين (333 - 451م) باللهجة الصعيدية (أقدم لهجة من لهجات اللغة القبطية). وفي أحد اللقاءات سرد عليّ قصة كيف أن المصريين مرتبطون بمصريتهم حتي في غربتهم وكان قد سجلها في كتابه الصادر عام 1971 بعنوان "المسيحية وأقباط مصر" فقال لي: أن القديس مكاريوس الكبير (300 - 390م) أراد يوماً أن ينطلق إلي قلب الصحراء ليري من فيها. فوجد بحيرة ماء في وسطها جزيرة، وأبصر فيها رجلين ملأ منظرهما نفسه رهبة!! وحين وجداه علي هذه الحال قالا له: لا تخف، فنحن بشر مثلك. وشرحا له كيف أنهما كانا راهبين في دير وانطلقا إلي الصحراء منذ أربعين عاماً طلباً للنسك. وبدأ يسألانه: هل فيضان النيل مازال يأتي إلي البلاد في مواعيده المناسبة؟ أما زالت البلاد تحيا في الرخاء الذي كانت عليه؟ ... إلخ. وهنا يعلق المؤرخ الكنسي د. وليم سليمان قلاده (1924 - 1999) بقوله: علي الرغم من بعدهما عن الحياة طلباً للنسك الزائد إلا أن القلق ملأ نفسيهما علي مصر ونيلها وزرعها ورخائها. فبمجرد أن قابلا مصرياً سألاه عن أحوالها. النموذج الثالث الذي أقدمه من القرن العشرين نراه في عمل قائد أسراب الطيران منير مفتاح (1929 - 1955). فقد حدث يوم 15 يناير 1955 خلل في الطائرة التي كان يقودها أثناء تدريبه لأحد طلبته، لكنه استطاع التحكم في الطائرة إلي أن قفز الطالب بالمظلة ونجا من الموت، أما القائد الشجاع فلم تتح له النجاة إذ سقطت به الطائرة علي تل بمدينة بلبيس. هذا العمل البطولي أثار أنتباه الرئيس جمال عبدالناصر- الذي يدرك معني البطولة ويُقّدرها - فمنحه وسام الجمهورية والذي قدمه إلي والدته، وعلم كلية الطيران الذي قدمه إلي ارملته. وكانت لي فرصة أن أتقابل مع والدته في أحد أيام شهر يوليو من عام 1995 بأحد أحياء مصر الجديدة وسردت لي تفاصيل بطولة ابنها المحبوب والدموع تملأ عينيها وشاهدت في منزلها مجموعة لصورها مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في حفل التكريم. هذه بعض من الصور المُشرقة لأبناء مصر الأوفياء. أمة يتحلي شعبها بمثل هذه الشجاعة والوطنية، أمة لا تموت. فكما كان هكذا يكون من جيل إلي جيل. كاتب المقال : استاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة [email protected]