جمال الغيطانى »يذهلني تجاهل ما يجري في سوريا من ذبح لشعب بأكمله تحت شعارات ثورية وبمال عربي وتواطؤ قومي«. عندما قرأت خبر انهيار مئذنة المسجد الأموي في حلب بكيت قهراً وألماً، الأثر النادر الذي يدمر ينتهي حتي لو أعيد ترميمه، هذا المسجد أمضيت فيه أياماً خلال زياراتي المتفرقة للمدينة الجميلة، مستقر التسامح لقرون عديدة والتعايش والتفاعل الثقافي، قبلة الفن، في مدخل كل بيت عود أو قيثارة، الكل يحفظ الأدوار القديمة والقدود الحلبية هذا الشكل الخاص بالمدينة، منها عرفت صوت محمد خيري في أوائل الستينيات عبر الهواء، وتلك الحفلات الموسيقية التي كانت تقام في الحواري، وكان الأهالي هم جمهورها ونجومها، أما صبّاح فخري فأتبعه أينما استطعت، لم أخلف حفلة واحدة من حفلاته القاهرية، ومنذ أن نبهني الروائي الرائع عبدالرحمن منيف رحمه الله إلي صوت صبري مدلل الذي كان بقالاً، ثم مؤذناً بديع الصوت، إذا اعتلي المئذنة يتعطل المرور في الشارع لجمال صوته، جاء إلي مصر خلال مهرجان الموسيقي العربية وتبعته إلي بنها وبورسعيد، وكان آخر ظهور له في بيت صديقي محمد قجة »لا أعلم أين هو الآن منذ انقطاع اتصالي به« جاء إلي السهرة من أجلي، وجلس وسط فرقته ليغني كتحية ومودة، كانت علاقتنا قد توثقت، وانتقلت المحبة إلي من تعلم منه أصول الغناء، محمد سرميني والموسيقار الرائع قدري دلال، أما الفرنسي أصلاً جلال الدين فايس فليس إلا نموذجا لمن أسرتهم المدينة وغيرت مصائرهم ، لزمها وتعلم منها العزف علي القانون وأصبح مشهوراً في العالم، الجامع الأموي مؤثر، متناسق، كامل، كان هدفاً للمتحاربين، لا أدري كيف يطلق علي ما يجري في سوريا لفظ »ثورة« إنه أكبر جريمة في تاريخ العرب المعاصر، مذبحة كبري تشارك فيها قوي عديدة، عربية في الأساس، النظام الطائفي الجاثم علي الأنفاس ورغم بشاعته إلا أن إسقاطه لا يبرر ما يجري، ملايين السوريين في المنافي، مأساة بشرية مروعة والغريب أنها لا تجد ما يستحق من اهتمام خاصة في الإعلام المصري، مع أن الأمر يعنينا جداً لأن ما يجري هناك يمكن أن يجري هنا، حلب، المدينة القديمة، المرتكز الأساسي علي طريق الحرير، عرفت الدمار في تاريخها الممتد، لم يقترب التتار والمغول من المسجد الأموي، لكن المتصارعين من الإرهابيين الدوليين الذين يستخدمون الإسلام غطاء، وقوات النظام، تنافسوا علي إسقاط المئذنة وهدمها وتدمير المسجد الذي يعود تاريخه الإسلامي النقي إلي الخلافة الأموية، دُمر السوق المغطي، لا أعرف مصير البيمارستان الأرغوني الموازي لبيمارستان قلاوون، قلعة حلب التي أستعيدها دائماً، كارثة ثقافية كبري بكل المقاييس، أستعيد أوراقي عن زياراتي للمدينة الذبيحة، أخشي انضمامها إلي المدن الدارسة، الغاربة. حلب أول مرة لحلب حضور عتيق منذ الأزل، أتوقف عند سيف الدولة الحمداني، نزول المتنبي بها، إقامته، أبو فراس الحمداني، ابن العديم مؤرخها الذي قرأت له »زبدة الحلب في تاريخ حلب« تحقيق سامي الدهان، و»الوصلة إلي الحبيب بالطيبات والطيب«، حلب التي اجتاحها هولاكو، ثم تيمور لنك الذي التقي بابن خلدون، حلب التي يعين نائبها من القاهرة في العصر المملوكي، كذلك نائب قلعتها الذي كان تعيينه منفصلاً، قائماً بذاته، حلب، شمالها سهل اسمه »مرج دابق« تقرر فيه مصير السلطنة المملوكية خاصة الديار المصرية عام ألف وخمسمائة وسبعة عشر ميلادية، تسعمائة واثنين وعشرين هجرية، عندما خرج الجيش المملوكي المصري بقيادة السلطان قنصوه الغوري ليلاقي جيش سليم الأول العثماني الذي اتجه إلي حدود السلطنة للغزو، وليأخذ الشام ومصر ليضمهما إلي الدولة العثمانية، حادث كبير، بعيد الأثر علي جميع الأطراف التي شاركت فيه، بدءاً من الدولة المملوكية التي تداعت بفعل الهزيمة، وأيضاً الدولة العثمانية التي بدأت تتجه إلي غزو بلاد المسلمين وضمها كقوة استعمارية بدلاً من الاتجاه غرباً، هذا الاتجاه الذي كانت تدعمه العقيدة، في مرج دابق انتهت السلطنة المملوكية المستقلة التي كانت تحمي الحرمين، البحرين، وكذلك بدأت نهاية الدولة العثمانية. عام ثلاثة وسبعين من القرن الماضي سافرت لأول مرة خارج الديار، كنت مكلفاً بمهمة صحفية، تغطية أخبار المعارك التي دارت في الجولان وعلي امتداد الجبهة السورية، سافرت إلي اللاذقية، توقفت بمدينة حمص، قرأت الفاتحة أمام ضريح الصحابي القائد خالد بن الوليد، كان الوقت فجراً والبرد قارساً، ما بين حمص واللاذقية رأيت الثلج أول مرة في حياتي، كانت عاصفة عاتية، شرعت عند وصولي اللاذقية للاتجاه إلي حلب، كنت أريد زيارة مرج دابق في الأساس، قراءة الفاتحة علي روح السلطان الشهيد قنصوه الغوري، تأمل المكان الذي تقررت فيه مصائر ومراحل، مكان وصفته في روايتي »الزيني بركات« التي تدور أحداثها في تلك الحقبة التاريخية الموازية لحقبة أخري قُدر لي أن أعيشها وأكتوي بنيرانها، أعني هزيمة يونيو عام سبعة وستين من القرن الماضي. الطريق إلي الشهباء عبر ثلاثين عاماً تالية زرت سوريا أربع مرات، ولم يتم مشروعي لزيارة حلب، عام ألفين اتصل بي الأستاذ محمد قجة، رئيس جمعية العاديات، الكاتب والشخصية الثقافية الاجتماعية المرموقة، دعاني لحضور ندوة عن الشيخ الأكبر مولانا محيي الدين بن عربي، للأسف، لم تسمح ظروفي وقتئذ بالمشاركة . عندما اتصل بي الأديب الأستاذ الجامعي، عبدالله أبو هيف في منتصف يوليو عام ثلاثة وألفين، طلب مني المشاركة في ندوة »الرواية والتاريخ« بمهرجان المحبة في اللاذقية، وافقت علي الفور، فوجئت بالأستاذ محمد قجة يتصل بي قبل مغادرتي القاهرة بيومين، يدعوني إلي حلب وحضور لقاء خاص بأدباء ومثقفي حلب في المكتبة الوطنية. حلب أخيراً، مكان تقت إلي زيارته، التعرف عليه، كيف سيبدو لي عند بلوغي مشارفه؟ عناصر عديدة توالت عليّ، بدءاً من لون الحليب الذي يستدعيه الاسم، إلي القلعة الشهيرة، إلي المتنبي، خولة شقيقة سيف الدولة، هل تبادلها المشاعر؟، هل هام بها المتنبي كما تؤكد الشواهد؟ هل شعرت قبل موتها؟ حلب الطرب، المدينة الواقعة عند مفترق الطرق، المحطة الهامة علي طريق الحرير. ظهر الاثنين، الرابع من أغسطس، عام ثلاثة وألفين، لاحت المدينة بعد أن قطعنا الطريق المؤدي إليها من اللاذقية، لافتات زرقاء تشير إلي الاتجاهات المختلفة، لافتات أخري تشير إلي صناعات وأنشطة تتخذ من المدينة مقراً لها، المدخل عبر الطريق السريع يتشابه مع مداخل مدن عديدة، ليس في الوطن العربي فقط، لكن في أوروبا أيضاً، لكن مع التغلغل في المدينة، إلي شوارعها بدأت شيئاً فشيئاً أضع يدي علي بعض من خصوصية، مصدرها لون أحجار المباني المتقارب، رمادي تحته الأبيض المائل إلي صفرة خفيفة، بعض الواجهات العتيقة من القرن التاسع عشر، طراز تركي، طراز متأثر بالروكوكو، لافتات الأطباء والمتاجر تعلن عن تنوع بشري وعرقي يعيش جنباً إلي جنب، أسماء أرمينية، أسماء عربية، أسماء ذات رنين غربي، عندما ترجلت من السيارة أمام مديرية الثقافة كانت درجة الحرارة باهظة، هكذا مناخ حلب صيفاً، شديد الحرارة نهاراً، يلطف ويرق ليلاً، اتصل الأستاذ محمد قجة بمدير مديرية الثقافة، قال إنه في الطريق، عندما ولج فراغ الغرفة المفروشة بأثاث عربي، مطعم بالصدف، تقدم بقامته المديدة وحضوره الوقور ليصافحني، أيقنت أنني أعرفه من قبل، إننا التقينا يوماً، لكن أين؟ لا أعرف! في المدينة القديمة قبل مغادرتي اللاذقية إلي حلب، عبر الهاتف طلبت من الأستاذ محمد قجة أن أقيم في أحد فنادق المدينة القديمة، قال إنه تم الحجز بالفعل في فندق زماريا، أحد البيوت الحلبية العتيقة التي تحولت إلي فنادق، كنت حريصاً علي النزول في المدينة القديمة لمعايشتها أطول وقت ممكن، وفي نفس الوقت كان في ذهني الفنادق الصغيرة المتواضعة، عندما وصلنا إلي منطقة الجديدة وجدت نفسي في المدينة العتيقة، الشوارع أضيق، مبلطة بالحجارة، نفس الحجارة الموحدة للدور والمباني، غير أنني فوجئت بجمال البناية التي يعود عمرها إلي أربعة قرون، لقد تم تحويلها إلي نُزل مريح، رفيع الذوق، أما السطح فمطعم ومقهي، معظم المقاهي المستقرة فوق مثل هذه البنايات التي تحولت إلي فنادق، تولي وجهها شطر القلعة، لحلب مركز قوي تنتظم حوله، إنها القلعة المشيدة فوق تل صخري طبيعي شاهق، وعبر عصور متوالية أضاف إليها الإنسان من الحصون والموانع ما جعلها منيعة، من الصعب جداً اقتحامها عبر عصور التاريخ لم تستسلم إلا صلحاً بعد انهيار الظروف السياسية والاجتماعية، القلعة هي مركز، جوانبها مائلة مكسوة بالحجر، يحيط موقعها الدائري خندق عميق، عريض، كان يملأ بالماء، يقوم فوقه عدد من الجسور، يتم رفعها عند بدء الحصار، توجد الآن قنطرة رئيسية تؤدي إلي الباب الرئيسي الشاهق، القلعة مركز الدفاع عن المدينة التي تنتظم بيوتها حولها، البيوت والدور والمنشآت تتطلع إليها، تتجه إليها، والقلعة مهيمنة، من شقوق نوافذها التي أملي تصميمها ضرورات أمنية يمكن رؤية امتدادات المدينة وانتظامها، وتقارب أقسامها، لم يضع الصديق محمد قجة وقتاً، بمجرد تدوين اسمي وتسلمي مفتاح الغرفة، خرجنا إلي المدينة القديمة، من خلاله بدأت ألم بالأسماء، والتاريخ المتواري خلف الحجر، في نفس الوقت كنت أحاول الاستيعاب وإدراك الخصوصية. الحجر.. الحجر تبدو الدور في الأزقة والحارات منحوتة وليست مبنية، ربما بتأثير الحجر، أقوي عناصر وحدة المدينة بالنسبة لنوعه ولونه، معظم الحارات أو الأزقة الأصغر مساحة مغلقة، سد، تطل علي فراغ كل منها مجموعة من الدور، يمكن الانتقال عبر أسطحها بسهولة، في المساء، في أوقات الشدة يغلق علي الزقاق أو الحارة، لا تمتد المساحات في خطوط مستطيلة، إنما تتعرج، وفوق فراغ الزقاق أو الحارة يمتد ممر مغطي أحياناً تتخلله نافذة، تذكرني تلك الجسور المعلقة بعنصر معماري فريد في القاهرة القديمة يوجد بمسجد أبو حريبة »بناه قجماس الاسحاقي« من العصر المملوكي، اسمه الساباط ويصل بين الميضأة ومبني المسجد، يمر من تحته الطريق، هذا العنصر يصل بين المباني التي يسكنها أقارب أو تتصل ببعضها لسبب معين بدون إعاقة الحركة في الطريق، وهذا من كفله فقه البنيان الإسلامي، فليس من حق أي صاحب نفوذ أو مقتدر أن يبني ما يؤدي إلي إعاقة حركة الناس أو يصعب عليهم أمورهم، فإذا بني ما يعترض طريقاً لابد أن يوفر ممراً يكفل لهم الحركة، هذا يفسر في القاهرة القديمة وجود الأقبية، أشهرها قبو قرمز تحت مسجد الأمير متقال في الجمالية، والقبو الممتد تحت قصر الأمير بشتاك والذي يصل شارع المعز بحارة بيت القاضي. تحت الأرض في حلب توجد الأقبية، والكهوف أيضاً، تحت بعض المنازل تمتد نزولها إلي عمق أرضي، بلغت قاع أحدها، في ذروة الحر تبدو القاعة الصخرية بفراغها البدائي ودرجة الحرارة منخفضة كثلاجة، يبدو أن هذه الكهوف كان بعضها موجوداً أصلاً بفعل الطبيعة، الآخر تم حفره لأغراض دفاعية، مثل تخزين المواد الغذائية عند الحصار، أو الاختفاء بعض الوقت، حدثني محمد قجة عن أنفاق تحت الأرض مؤدية إلي القلعة لتزويدها بالمؤن وقت الحظر، الحواري والأزقة المتداخلة تبدو منظومة زخرفية من الحجر، يوحي بعضها ببعض، يبدو زقاق مغلق كأنه لن يؤدي إلي فراغ آخر، لكن عند بلوغ النقطة التي لا يتجاوزها البصر، ينفتح طريق ويبدو درب، أو زقاق، تتقارب الدور الحلبية، مجاور، مخطط المدينة يستجيب للمناخ، ولأغراض دفاعية شأن المدن القديمة كلها، غير ان الوضع في حلب أدق، المدينة عند ملتقي الطرق المؤدية إلي الشرق والغرب انها احدي أهم المحطات علي طريق الحرير والتوابل الواصل بين أقصي الشرق وأقصي الغرب، كما انها نقطة متوسطة، متماسة مع أماكن تسكنها جنسيات شتي عندما مررت بشوارع المدينة الحديثة، قرأت التنوع والتعايش من خلال اسماء الاطباء وأصحاب المتاجر. ولنتأمل هذه الاسماء التي وقع عليها بصري في الطريق أو من جداول رسمية: محمد دياب، جهاد، طبشو، أدولف بوخة، عبدالعزيز عليكاج، ساحر اغا، محمد بظت صونا صدصاني، جورج كوستنيان، عمر منصة هند مشلح جورج ادلبي، يمكن رصد أهم سمة في المدينة، التعايش والتسامح، ربما يرجع هذا إلي وجود اعراق مختلفة منذ ازمنة عتيقة، حلب محطة عبور، وإلي صلاتها بالشرق والغرب، هذا الموقع نفسه الذي افسر به هذه السمة وتلك القدرة علي التعايش عرضها لغزوات مدمرة عبر التاريخ، اجتاحها هولاكو واحدث بها تخريبا هائلا، كذل تيمور لينك. القلعة اثناء جلوسنا فوق سطح دار الياسمين التي تحولت الي فندق، اشرت إلي القلعة المضاءة بذكاء وتنسيق دقيق، سألت الصديق محمد قجة. »كم سنة تطل علينا من فوق اسوار هذه القلعة؟« قال إنه طبقا لقراءة الاثار وما تراكم منها يمكن القول اننا في مواجهة تسعة آلاف سنة. تذكر المراجع العلمية ان الانسان استقر في هذه المنطقة منذ حوالي سبعة آلاف سنة، عاصرت حلب مدنا قديمة اندثرت مثل بابل ونينوي واوغاربت وايبلا واور وافامية وكركمبش. تغيرت مواقع تلك المدن وتحول بعضها إلي اطلال، وبقيت حلب في موقعها، لم تتوقف دماء الحياة عن التدفق في شرايينها، تماما مثل منف المصرية القديمة التي أصبح اسمها حصن بابليون، الفسطاط، العسكر، القطائع ثم القاهرة التي احتوت هذا كله، اما النسيج العمراني لحلب الذي نراه الآن فيعود إلي الفي واربعمائة سنة علي الاقل. من هنا يستقر في فضاء المدينة ذلك العنصر الذي لايمكن تعيينه أورصده، انما يدركه الاحساس. انه ما يمنح الشعور تلك العتاقة، لديّ يقين ان الأماكن التي يتوافد عليها البشر، يقيمون ثم يرحلون، تكتسب آثاراً منهم، خاصة اذا اودعوها بعض نتاجهم، من عمارة وفنون مختلفة، في حلب تبدو اثار الجهد الانساني في فروع شتي، منها العمارة والنسيج والطعام والنقش علي الحجر والمعادن، توارث الموسيقي، وفنون الطرب، يتم هذا عبر منظومة اجتماعية، بعضها تلقائي، ومنها المنظم، كانت جمعية العاديات من اهم منظمات العمل الاهلي التطوعي في العالم العربي والتي قامت بجهد خاص في الحفاظ علي تراث حلب والاستمرار به حيا فاعلا في شتي المجالات. السوق المغطي دمرت الهجمات المجنونة الطائشة السوق المغطي، واحد من اجمل اسواق العالم، بقبابه واعمدته وروح البشر فيه، عرفت اسواق العالم من بخاري إلي البندقية، اذهلني اسواق اربيل، وفتنت بصنعاء القديمة. احفظ دوربها كأني ولدت بها، كذلك البصرة بقنواتها وشناشيلها، اما سوريا فهي النغم المتواري خلف الحجر، وفي أرواح البشر، وعندما زرت قرطبة في الاندلس رأيت الالوان التي عاينتها في بيوت دمشق القديمة. أما المغرب فله وضع خاص عندي. يوما سأكتب مؤلفا عن الاسواق يتكون سوق حلب من سبعة وثلاثين سوقا، كلها تتداخل ببعضها، دعيت إلي الغذاء مرتين، مرة عند تاجر عاديات اعجبني اسمه »قضيب البان« أتي بالطعام من منزله، وجبة من أجمل ما تذوقت، يقال ان من لم يعرف الانثي الحلبية فسيظل جاهلا بحواء. الجمال هناك خاص نتيجة الاختلاط الانساني، التداخل منتج للأجمل، للأصح، الفندق الذي اقامت به اجاثا كريستي وكتبت احدي رواياتها مازال، مرج دابق التي تقرر فيه مصير مصر كانت سببا في زيارتي الاولي، وقفت في السهل لا قرأ الفاتحة علي روح السلطان الغوري الذي استشهد في المعركة مدافعا عن الشام ومصر، كلاهما مرتبط بالآخر، هذا الارتباط مخيف جداً قدر أهميته، أخشي النموذج السوري في مصر، صحيح أن جيشنا مؤسسة وطنية، ليس طائفيا، لكن ثمة طائفة تتكون الآن من خلال الجماعة، لاول مرة تعرف مصر ملامح الطائفة وهذا مخيف. من حلب جاء إلي مصر الشيخ درويش الحريري الموسيقار الكبير، احتفظ بأدواره في الجهاز الصغير الذي لا يفارقني »آيبود«. إلي حلب سافر سيد درويش لينهل من موسيقاها. حلب الآن تتمزق، تراث انساني يهدر، كارثة انسانية وثقافية، يجب ان نصغي إلي ما يجري هناك، يجب ان نتابعه اعلاميا، صحفيا، ان نتقصي ونخبر اهلنا في مصر، سوريا ومصر تؤثران في بعضهما، اتذكر سيدة عجوز، زوجة الحارس للمسجد الاموي، هو سوري، هي مصرية تزوجا في سنوات الوحدة، كان عبدالناصر يشجع زواج الشعبين، كان الزواج منطقه مغايرا لزواج القهر الذي يجري الآن، كانت السيدة من الجيزة، لم تنجب، اقتربت مني وانا اقف متأملا المئذنة التي انهارت خلال الحرب المجنونة مؤخرا، قالت انها مصرية، وحدانية، اهلها في الجيزة نسوها، لكن ربنا رزقها برجل طيب ساترها ومريحها، قالت: »الله يريح قلبه« وعندما تأهبت للانصراف، حملتني امانة ان اسلم علي مصر، مصر كلها. تري.. ما مصيرها الآن؟ من ديوان الشعر العربي قال عمرو الوراق »توفي حوالي 200 هجرية« استودع الله قوما ذكرتهُم إلا تحدر ماءُ العين من عيني كانوا، ففرقهم دهر وصدّعهم والدهر يصدع ما بين الفريقين كم كان لي مسعد منهم علي زمني كم كان منهم علي المعروف من عون لله درُّ زمان كان يجمعنا أين الزمان الذي ولّي ومن أين؟ عن تاريخ الطبري طبعة دار المعارف