في القرن السابع الميلادي عندما حاول الصحابي عبدالله بن أبي السرح فتح بلاد النوبة, لم ينجح في السيطرة الكاملة علي البلاد تاريخنا الذي لا نقرأه مليء بالكثير من قصص الوساطات التي قامت بها الكنيسة في جميع العصور الإسلامية وحتي القرن العشرين توالت التعليقات في مختلف الصحف ومواقع الإنترنت منذ الإعلان بأن الكنيسة القبطية تجري اتصالات بموافقة شبه رسمية مع الكنيسة الإثيوبية بشأن مشكلة المياه في حوض النيل. واستوقفني تخوف بعض العقلاء من انجراف القضية ناحية الدين, بما يستتبعه ذلك من تداعيات نحن في غني عنها, وهو في رأيي تخوف مشروع سببه مناخ الاستقطاب الطائفي الحاد الذي يشهده المجتمع المصري, والذي عبرت عنه التعليقات التي أشرنا إليها سابقا. غير أنني أري الأمر في سياق آخر, فساحتنا الثقافية ومناهجنا التعليمية غيبت عن ذاكرة الجميع الدور التاريخي الذي كانت تلعبه الكنيسة القبطية في علاقات مصر بالنوبة وإثيوبيا علي مدي الألف وأربعمائة عام الماضية, أي منذ الفتح العربي لمصر. فقبل هذا التاريخ لم يكن للكنيسة أي علاقة بسياسات الحكام في مصر مع النوبة والحبشة كما كان يطلق علي إثيوبيا في تلك الأيام, رغم أن الكنيسة كانت قد أسست كنيسة تابعة لها في منطقة النوبة والحبشة منذ القرن الرابع الميلادي, وكان نطاق رعويتها يمتد من أسوان حتي عمق البلاد الإثيوبية. وفي القرن السابع الميلادي عندما حاول الصحابي عبدالله بن أبي السرح فتح بلاد النوبة, لم ينجح في السيطرة الكاملة علي البلاد, غير أنه استطاع أن يحقق من الانتصارات ما أجبر ملك النوبة علي توقيع اتفاقية الهدنة المعروفة باتفاقية القبط, التي بموجبها تدفع النوبة للدولة الإسلامية جزية سنوية, وتحافظ علي جريان النيل في أراضيها ليصل إلي مصر. ومنذ هذه اللحظة لجأ الحكام المسلمون إلي استخدام السلطة الروحية للكنيسة القبطية علي ملك النوبة والحبشة لحل ما يعترضها من أزمات خاصة تلك المتعلقة بجريان مياه النيل وقت انخفاض الفيضان. وتاريخنا الذي لا نقرأه مليء بالكثير من قصص الوساطات التي قامت بها الكنيسة في جميع العصور الإسلامية وحتي القرن العشرين, وفي تاريخ البطاركة لساويرس بن المقفع ما يؤكد أن الكنيسة القبطية حاولت أن تنظم سياساتها في النوبة والحبشة بما يتلاءم مع المصالح الاستراتيجية للحكم في مصر, خاصة فيما يتعلق بمياه النيل. فعندما أرسل ملك الحبشة إلي الخليفة الحافظ[1132 1149] يطلب منه التوسط لدي البطريرك غبريال بن تريك[1131 1145] لزيادة عدد أساقفة الحبشة رفض البطريرك وأرسل إلي الخليفة ينبهه إلي ما في ذلك من خطورة قد تؤدي إلي استقلال كنيسة الحبشة عن الكنيسة المصرية ومن ثم يخرجهم ذلك إلي العداوة والمحاربة لمن هو متاخم بلادهم من المسلمين كما كانوا يفعلون في قديم الزمان. وبعد أن تحولت النوبة عن المسيحية واختفت كنيستها بقيت كنيسة الحبشة الإثيوبية علي تبعيتها للكنيسة القبطية حتي سبعينيات القرن العشرين, عندما سقط نظام الامبراطور هيلاسيلاسي علي يد النظام الشيوعي بقيادة منجستو هيلا ماريام. طوال هذه الفترة كان للكنيسة الإثيوبية نفوذ هائل علي الحكم في إثيوبيا وكان للكنيسة القبطية تأثير هائل في الكنيسة التابعة لها, كل هذا هيأ الفرصة للكنيسة القبطية للعب دور ما في العلاقة بين مصر وإثيوبيا فيما يخص مياه النيل تحديدا, وربما كان أقرب مثال للذاكرة الوطنية هو الرئيس الراحل جمال عبدالناصر, الذي كان يدرك مدي تأثير البابا كيرلس السادس علي الامبراطور هيلاسيلاسي, ولعل البعض يذكر الاحتفال الشهير لوضع حجر أساس الكاتدرائية الحالية والصورة الشهيرة التي جمعت الرئيس والامبراطور والبابا في منصة الاحتفال. غير أني أعتقد أن الدور الذي كانت تلعبه الكنيسة في الحبشة قد تبدل تماما, فعلي الرغم من استمرار النفوذ الروحي للكنيسة القبطية في جماهير الشعب الإثيوبي, إلا أن نظام الحكم العلماني لن يعطي فرصة للكنيسة الإثيوبية للتأثير فيما يراه قرارات سياسية واستراتيجية. كما أن الكنيسة الإثيوبية نزعت منذ فترة إلي الاستقلال عن الكنيسة القبطية, بل ان بها من يري أن الكنيسة القبطية طالما أساءت استخدام نفوذها الروحي فيما يخص كنيستهم الوطنية, خاصة فيما تعلق باستقلال أسقف إريتريا تحت إشراف الكنيسة القبطية. وللكنيسة القبطية أيضا بعض مرارة بسبب استيلاء الإثيوبيين علي دير السلطان بالقدس بدعم الاحتلال الإسرائيلي. الوساطة القبطية الآن هي امتداد لدور تاريخي, وهي من وجهة نظري جهد وطني وليس طائفيا.. غير أنها تأتي في وقت تغير فيه كل شيء.. فقد تغيرت الجغرافيا منذ إنشاء السد العالي, وتغيرت نظم الحكم في المنطقة كلها, وتغير موقع وموقف المجتمع الدولي, وأخيرا تغيرت الكنائس فلم تعد تلك العلاقة التاريخية التي كانت علي مدي القرون السابقة ولذلك ربما لن تأتي بنفس النتائج, لكن الدفع بكل الجهود مهما بدت صغيرة واستثمار كل الإمكانيات.. موقف مسئول وجاد علينا أن نثني عليه وألا ننجرف وراء مخاوفنا.