الواقع أن الحياة تكتسب قيمتها من خلال الأعمال الصالحة بعيدا عن عوامل الشر, وإن الحياة تحتاج إلي أن نعيش فيها ونحن نملك إرادة خيرة نابعة من شعورنا الديني الخلقي الذي لا يعترف إلا بكل ما هو خير, وبكل ما يدفع إلي المحبة الخالصة بعيدا عن عوامل الشر وما تؤدي إليه من تدمير لقيمة الانسان. والكلام عن الشعور بالألم هو كلام عن الترقي الروحي في أعظم معانيه فما من شيء عظيم أو جليل, أو يمثل قيمة لها وزنها في هذه الحياة البشرية دون الألم!! وكلما ارتقي الانسان كلما كانت المحن والعوائق والتجارب القاسية من الأمور المهمة في إرساء قواعد هذا الارتقاء. ولعل الفرق الأساسي بين الانسان البدائي والانسان المتحضر يتجلي في مدي استشعار كل منهما لهذا الشعور الجميل الذي يصقل النفس ويعمل علي تنقيتها من شوائب الماديات. ولقد كانت الحضارة ولا تزال مدخلا طبيعيا للآلام بما تقدمه من معطيات حسية, وسواء أردنا أو لم نرد فإنه لابد لنا من أن نشتري حضارتنا بأفدح الأثمان, لأن علينا في نفس الوقت أن نتقبل ما يجيء معها من آلام ومصاعب ومحن!! والانسان في صراعه مع الحياة وما قد يجده فيها من تناقضات تولد في نفسه تناقضا بين ما هو كائن, وبين ما ينبغي أن يكون, يحاول بقدر المستطاع أن يعلو علي نفسه وذلك من خلال تجاوز هذه الآلام والعمل علي التخفيف من حدتها... ولو أن قدرة الانسان علي أن يتحمل الألم هي بمثابة نقاهة للنفس وتنقية لأبعاد الشخصية. ويمثل الألم قيمة في كونه يشعرنا بأهمية السعادة, خاصة عندما تضيع هذه السعادة من أمامنا, فلا نملك إلا البكاء عليها تماما كما تهب نسمة الصيف الرطبة محملة بالأنسام الباردة, فننسي توظيفها لأننا نتمني استمرار هبوبها وقد نطمئن إلي ذلك الاستمرار المشبع بالأماني العذبة ثم نفجع بمرور النسمة العابرة ليستمر القيظ. هكذا لا يشعر الانسان بالسعادة إلا إذا فارقته تلك السعادة لأنه عندما كان غارقا في غمرتها لم يعط لنفسه الفرصة لكي يحرص علي استمرار السعادة وذلك بأن يخطط لها ويتدرج في أمر التعامل معها, وحتي لا ينسي في زحمة النشوة بالسعادة قضية أنها من المحتمل أن تضيع ويذهب أريجها العطر وسحرها الجذاب وإذا كان الألم من الأمور الضرورية لأنه ينبهنا بكياننا الفردي, وأنه في نفس الوقت حافز قوي يدعونا إلي الاستمرار الراقي في الحياة... ولكن هل يجوز أن يعيش الانسان متألما دون أن يتعاطف معه الآخر؟ وهل من المعقول أن يترك الانسان يعيش ويعاني في صمت مرارة الألم وقسوة الوحدة؟!! وللإجابة علي هذه الأسئلة المهمة نقول: إن الألم إذا كان يدفع صاحبه إلي الانعزال عن الناس لأن الألم من شأنه أن يشعر صاحبه بحدوده, وأن يحبسه داخل مشاعره, ويعمل علي تشكيل انتباهه فلا يجد في نفسه أي اهتمام بالآخرين. ولكن هذا الشعور الفردي لا يجعلنا ننسي أننا لابد وأن نتجه إلي الشخص المتألم لنناقشه ونكسر عليه وحدته بتوظيف معادل المودة والرحمة والتعاطف والتفاعل المحب. وإذا كان الألم يحتاج إلي أن يعايشه الفرد, فإن هذه المعايشة لابد وأن تحظي بمؤانسة الآخر الذي لا نطالبه بتحمل الآلام, ولكن نلزمه بالتخفيف من حدتها لأنه لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا يعانيها. والإعاقة الخلقية تحدث عندما لا يكترث الانسان بآلام الآخر فيتركه يعيش تجربته القاسية وحيدا متذرعا بأن الانسان لا يستطيع أن يعيش تجربة الآخر وأن التدخل في مثل هذه الأمور قد يضاعف الآلام أو يزيد الطين بلة!!! والحق يقال: إن الانسان الذي يمر بتجربة مؤلمة قد نجده في كثير من الأحيان يصرخ قائلا: أنا أريد أن أكون وحدي أو نراه يعلن عن ألمه بأن أحدا لن يستطيع أن يتصور إلي أي حد يتألم, أو أن ليس هناك من يستأهل أن يتعرف علي طبيعة حزنه ومسببات آلامه!! ومثل هذا الانسان إذا كان يتذرع بأقوال يبدو من خلالها قويا أمام الآلام فهو يعلن دون أن يدري عن ضعفه لأنه يكفيه أن إعلانه عن قوته المزعومة يحوي جوانبه نداء للآخر لكي يمد له يد العون والمساعدة. وإذا كان الألم يخص فردا بعينه فإن هذه الخصوصية لابد وأن تعلن عن نفسها لتتآزر الأفئدة وتخفف من حدة الألم.. فيرتفع الانسان بفضل وجدان الآخر إلي أعلي درجة من التكيف والوئام, لأن الألم اعتمادا علي هذه المؤازرة يتحول إلي أداة فعالة تزيد من خصب حياتنا الروحية وتعمل علي صقل شخصيتنا, والارتفاع بمستوي فكرنا خاصة إذا كان الآخر محبا وودودا ومتفاهما. وإذا كنا نسعد معا فلابد وأن نتألم معا, فالألم هو همزة الوصل بين الانسان الراقي وزميله في مضمار الحياة الخلقي, فلا خير في إنسان يترك الآخر متألما دون أن يكترث به اللهم إلا إذا كان هذا الانسان يريد أن يبتر في نفسه أهم عناصرها وأعني بها( رونقه الخلقي) ووجدانه وعواطفه!! والانسان عندما يتعاطف مع الآخر ليخفف من آلامه فإنه يعد نفسه لاستقبال الآلام وهو محصن بتعاطف الآخر لأن الدنيا سلف ودين بمعني أن ما يقدمه الانسان من خير يوف إليه دون أن يظلم, فالخير له إشعاعه وله ترجمته وردود أفعاله. والواجب ونحن نتكلم عن الألم وضرورته أن ننبه الأذهان إلي أن استرجاع الخبرات الماضية قد يؤدي إلي إثارة الآلام, ولذلك تعتبر الخبرات الماضية والحاضرة التي يمر بها الانسان وما يحدث فيهما من أخطاء نندم عليها لابد وأن تولد فينا شعورا بالندم وتعذيبا للضمير, ولعل ذلك مرجعه إلي أن الانسان ينسي في لحظات أنه إنسان وأن عليه أن يتذكر بروح التقوي وصفاء النفس وقوة الإرادة الخيرة كيف يمكن أن يكون إنسانا. والذي لا شك فيه إن الانسان يحب أن يقبل علي اللذة ويميل إلي العزوف عن الألم ولكن هذا الانسان لا يستطيع أن يحقق ذاتهselfActualization اللهم إلا إذا انصرف بعيدا عن منطق السهولة واليسر واتجه نحو مجاهدة النفس سعيا وراء المشقة, فخبرة الألم هي صراع الانسان ضد هواجس النفس وهو ما تمليه عليه نفسه من أوامر حسية يخضع لها كل من ضعفت إرادته وأحس بالتخاذل والقصور, ولكن الانسان الشبعان نفسيا هو المخلص والمجاهد للغريزة وإذا كان الانسان الراقي المخلص قد كتب عليه أن يتألم, فإن وجود الآخر بجواره وتعانق الأفئدة المحبة, يستأصل أسباب الألم ويخفف من حدتها, ويعمل علي الاستمرار السليم للانسان الراقي المؤمن.. المخلص.. الوفي ويحقق له دائما الشبع النفسي... والانسان الراقي لأنه شبعان نفسيا هو المحب لغيره من أفراد البشر وهو الذي لابد وأن يشعر بأنه قد تحالف مع زميله في الانسانية علي تنظيم العلاقة الطيبة بينه وبين سائر البشر في كل زمان ومكان وفق الهداية الربانية واعتمادا علي صراط مستقيم فلا ينبغي أن نترك الذي يشعر بالألم أن يعاني وحده بل لابد وأن نتفاعل معه ونخفف عنه الألم.. وعلي كل إنسان أن يعرف أن علامة الانسانية التي تميزه أن يكون متعاطفا مع الآخر, ويحب الآخرين ويتعاطف معهم دون من أو أذي, يتفاعل دون قسر أو ضغط, يتراحم ويحب ويتعامل مع الحياة كأنه يعيش أبدا ومع الآخر كأنه سيموت غدا... وأن يستمع دائما إلي من يشعر بالألم النداء الذي يردده أرجوك لا تتركني أتألم وحدي فيستمع إليه ويلبي طلبه ويحاول جاهدا أن يخفف آلامه. رابط دائم :