استقبل الطفل عبارات وغمزات الأقارب في كسوف, وتسللت إلي وجنتيه حمرة الخجل وهم يزفون إليه أنه سيجري العملية ويصبح من الرجال أسوة بشقيقه وأقرانه بالعائلة. وبعد فترة من الوقت شعر الصغير ذو السنوات الخمس بالحرج, فتملص من جلسته في بيت جدته وهرب إلي من هم في عمره يشاركهم لعبهم أمام المنزل. وبالرغم من خروج أحمد إلي اللعب فإن الحديث عن تفوقه بالمدرسة لم ينقطع بين الأقارب الملتفين بالصالون يتجاذبون الحديث عقب انتهاء امتحانه بمرحلةKG2)) التي كان يتفاخر كلما سلم عليه أي من الأقارب الكبار بقوله: إنه نجح في المدرسة, وتنهي كلماته بضحكاته المميزة, ويسارع بالجري, وعقب انتهاء الزيارة حدد الأب موعد إجراء عملية الطهارة للصغير وسط التهاني والضحكات, ولم تستمر الفرحة طويلا, بل تبدلت إلي صراخ وعويل وبكاء وصمت لا ينتهي بين أفراد العائلة المكلومة. اقترب منا في خطوات بطيئة تبدو واثقة برغم اهتزازها, وما إن وقف أمامنا حتي استقبلتنا عينان لفهما الشحوب كباقي ملامح الوجه الذي اكتسي بالوجوم, ووقفنا نحييه وندعوه إلي الجلوس في استراحة الأهرام المسائي, لكن صمته كان سيد الموقف, وبعد دقائق من تسارع أنفاسه جفف عرقه, وجلس بجورنا ووضع حافظة أوراقه أمامنا وخرج صوته يمزق السامعين متقطعا, وهو يقول: قتلوا ابني بإهمالهم وسكت فجأة وكأنه ألقي حجرا كبيرا عن كاهله, واعتدل يخرج أوراقه ومستنداته قائلا في بطء: اسمي مجدي السمان مدرس ثانوي(46 سنة) وأقيم بفيصل, ومأساتي بدأت بعد اتجاهي لإجراء عملية الطهارة لولدي أحمد, الذي لم يتجاوز السنوات الخمس, ورزقت به بعد بسمة ذات الاثني عشر ربيعا, وعبدالرحمن صاحب السنوات العشر. ويصمت الأب محاول تجميع جمله وعباراته التي تظهر علامات التأثر الشديد عليه وهو يستعيد تفاصيل واقعته, وبعد فترة من الصمت انهمرت دموعه بعد احتباسها, واحترمنا نحيبه الذي استمر طويلا, واعتقدنا أنه لن يتحدث ثانية, لكن صوته عاد يعلو قائلا: اخترت مستشفي ال حمد القريب من منزلي بمنطقة فيصل بالجيزة, وقابلت الجراح الدكتور شعبان عبدالحميد الذي كشف علي أحمد وطلب مني إجراء التحاليل الخاصة بالعملية, وبالفعل أجريتها في اليوم نفسه بمعمل المستشفي وسلمتها للجراح نفسه ليطلع عليها وحدد لي إجراء العملية بعد يومين من التحاليل. وعاد الصمت يلف المكان بعد سكوت الأب, ثم استكمل بصوت متحشرج: اصطحبت أحمد ووالدته للتسرية والتخفيف عنه, ولإفهامه طوال الطريق أن العملية إجراء بسيط وأسهل من عملية استئصال اللوزتين التي أجراها منذ عام وتمت علي خير. وأضاف الأب وهو يحاول منع دموعه: تقابلت مع الجراح المنوط به إجراء العملية بعد دفعي مبلغ520 جنيها تكلفة العملية حسب رسوم المستشفي, وأخبرني الجراح أنهم في انتظار محمد طه طبيب التخدير الذي حضر بعد دقائق معدودة, ووضع صغيري علي السرير وسط كلمات التشجيع منه أمه, وتلويح كفيها من بعيد, وبكي الأب وهو يقول: لا تغادر ذاكرتي ابتسامته وكلماته مع أمه وهو نائم عليا لسرير قبل إجراء العملية. واستكمل ودموعه تتساقط علي أوراقه: سألت الجراح قبل أن يدلف إلي غرفة العمليات عن الوقت المستغرق في العلمية فطمأنني بكلمات لا أنساها وقال لي الطبيب: ما إن تلتفت يمينا أو يسارا حتي تجدنا أتممنا العملية بنجاح في أقل من10 دقائق, واستكمل في خفوت وهو يقول: وتجاذبنا أطراف الحديث أنا وأمه لقتل دقائق القلق, ووقفنا ننظر إلي الباب المغلق المعلق عليه جملة غرفة العمليات وبصرنا يكاد يخترق الباب والجدران لهفة للاطمئنان علي نجلنا. وأضاف بصوت تعتصره الحسرة: ومرت الدقائق العشر.. ثم العشرين, وامتدت إلي الثلاثين حتي وصلت إلي الساعة, وتحولنا إلي تمثالين أكلهما الخوف والارتعاش والقلق, ولم يخرج إلينا أي طبيب ممن دلفوا إلي حجرة العمليات, وكلما مرت ممرضة في الطرقة خارج الغرفة أدس أنا وأمه في يدها كل ما معي من نقود لمعرفة أي أخبار عن صغيرنا دون جدوي, وفجأة شعرت بحركة غير عادية حولنا, واصفر لون أمه وهي تري الممرضات يجرين في طرقات المستشفي إلي داخل غرفة العمليات, والتفت خلفي فرأيت كبيرة الممرضات تضرب علي صدرها وتعض شفتيها بدون كلام, فاقتربت أكثر من انفراجة باب غرفة العمليات مخالفا للتعليمات, وأكمل في مرارة: وقع قلبي بين قدمي وأنا أري صغيري يضع أحد الأطباء كفيه علي صدره ويضغط في قوة رهيبة لا يتحملها جسده الهزيل, فلم أدر بحالي وخلعت نفسي من جوار زوجتي وقفزت قفزتين لأجد نفسي أصرخ في وجه الطبيب أستعلم عما حدث للطفل, فالتفت إلي الطبيب الجراح وأخبرني في توتر أن ابني استقبل جسده جرعة بنج زائدة تسببت في دخوله في حالة غيبوبة, فشعرت بالشلل يلف لساني, وفي هذه اللحظة تسلل إلي أذني أذان صلاة الظهر فخفضت رأسي إلي الأرض واتجهت إلي زاوية الصلاة في المستشفي ورفعت يدي بالدعاء لإنقاذ الصغير وإعادة البسمة إلي أمه التي كانت في حالة بكاء هستيري, لكنها كانت تأمل وتتعشم إنقاذه, وفرغت من الصلاة وعدت أنقل خطواتي في ثقل لأقابل الطبيب الجراح, ولاحظت أمه انهماك الممرضات في إجراء اتصالات مكثفة والبحث عن سيارة إسعاف مجهزة لنقله إلي مستشفي أكثر تطورا, وبعد لحظات وصلنا للجراح فوجدته يحيط رأسه بكفيه في حالة انهيار تام وكان يبكي, وقتلني بعبارة عملنا كل حاجة.. لكنه قدره, فصرخت فيه يعني إيه, فلم يرد علي صراخي حتي هدأت قليلا فقال لي: ابنك مات, فسقطت أمه أرضا فاقدة النطق, فأسرعت الممرضات وهن يبكين يحاولن إفاقتها وقد تصلب جسدها, ولم أتمالك نفسي وانهرت باكيا, ثم اختفي من حولنا كل الناس فاتجهت إلي إحدي الممرضات وطلبت منها إحضار ولدي لتغسيله, وانفردت بجسده المفارق للروح بعد أن استعدت شيئا من أعصابي الضائعة وقرأت الكثير من الآيات القرآنية وقمت بتغسيله. وسكت الأب من جديد ثم استرد أنفاسه وعاد يقول في سرعة: حضر الأقارب إلي المستشفي وكلفت أخي الأصغر خالد تاجر الموبيليا باستخراج شهادة الوفاة من المستشفي والتوجه بها إلي مكتب الصحة في منطقة أبو قتادة لتسلم تصريح الدفن, وواريناه التراب وسط حالة من الحزن لا توصف في المنطقة وبين كل الأقارب والمعارف. واستمر الحزن في منزلنا نتيجة مضاعفات مرضي السكر والضغط لدي أمه, وبعد مرور يومان علي وفاته وقعت عيناي علي ورقة شهادة الوفاة لأول مرة فصعقت بعد قرائتي للتقرير المرفق من المستشفي عن الوفاة المدون فيه أن سبب الوفاة هبوط حاد في الدورة الدموية, وصعوبة في التنفس نتيجة عيوب خلقية بالقلب, وهذا ما أثار شكوكي وفجعني, حيث إن أحمد أجري منذ عام عملية استئصال اللوزتين وهي أصعب من الطهارة, وكان تحت تأثير البنج فترة أطول ولم تحدث له أي مضاعفات, سواء في أثناء العملية أو بعدها, وشعرت أن التقرير محاولة من الجراح وطبيب التخدير وإدارة المستشفي لإخفاء وطمس الأخطاء الجسيمة التي وقعوا فيها, والإهمال المتسبب في مفارقة ابني للحياة. وأضاف الأب والدموع تنهمر من عينيه: توجهت إلي قسم شرطة بولاق الدكرور وحررت محضر رقم3988 لسنة2013 إداري أتهم فيه الجراح وطبيب التخدير وإدارة المستشفي بأنهم وراء وفاة ابني نتيجة إهمالهم الجسيم, فضلا عن عدم احتواء المستشفي علي سيارة إسعاف مجهزة, وأجهزة تنفس حديثة تسعف المريض. وتساءل الأب والحزن يقطر من كلماته من المسئول عن إهمال هذه المستشفيات: وأين وزارة الصحة التي تعطي تصاريح عمل لهذه المستشفيات؟ وأين دورها في مراقبة عملها؟ ومن يحاسب هؤلاء الأطباء الذين خطفوا روح ابني وقتلوه بإهمالهم؟ ومن يعوضني عن ولدي؟ وصرخ الأب وصوت بكائه يعلو وهو يقول: لا يمكن أن أنسي هيئة ولدي وهو يقفز متحمسا في طريقه ممسكا يد أمه, متجها إلي المستشفي قبل إجراء العملية, فابني كان متفوقا ويشهد له بالذكاء الفطري, وإجاباته كانت تبهر مدرسيه, وحسبي الله ونعم الوكيل.