في كتابه حدود التأويل ميز الروائي الايطالي الشهير إمبرتو ايكو, بين نوعين من القراءة, القراءة الأولي يكون القصد منها استعمال النص واستخدامه لخدمة اغراض ومقاصد في نفس القارئ, وهي القراءة الاستعمالية, أما القراءة الثانية فهي التي يكون هدف القاريء فيها تأويل النص واستثمار كل الإمكانات لتفعيله وإثرائه دلاليا, وهي القراءة التأويلية. وفي اعتقادي ان كتاب: أقباط ومسلمون.. منذ الفتح العربي إلي عام1919 لجاك تاجر الذي اصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة جديدة منه اخيرا في بادرة شجاعة هو نموذج دال لقابلية خضوع النص لقراءة استعمالية وليست قراءة تأويلية تسعي لاستثمار طاقاته بدلا من هدرها فالكتاب الذي اثيرت ضجة كبري عند صدور طبعته الاولي في العام1951 كتبه باحث لبناني عمل في مكتبة القصر الملكي في مصر قبل الثورة وخاض مغامرة الكتابة في هذا الموضوع الشائك بدافع المؤرخ الذي يسرد الحوادث علي حقيقتها لا بشعور القاضي الذي يحكم بين طرفين لكنه انتهي إلي ابتكار نص ملغز وإلي اصدار احكام تبدو مرتبكة لدي غالبية القراء الراغبين في حشره داخل خانة الاستعمال التي جعلت منه أداة فعالة في يد مشعلي حرائق الحروب الدينية علي الانترنت. وقد التفت إلي هذا الامر الدكتور محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة في المقدمة التي وضعها للكتاب كاشفا عن السياق الذي رافق صدور طبعته الاولي عام1951 وقت ان كانت الاوضاع العامة في مصر غير مستقرة, صاحبها صعود المد الديني بشكل عام وبروز حالة من التمايز الديني ادت إلي توجس الأقباط وازدياد التصاقهم بالكنيسة. وعلي الرغم من ذلك لا يمكن اعتبار الكتاب رؤية مسيحية لحركة التاريخ المصري في المسافة التي يقطعها موضوعه, وانما هو محاولة مجتهدة بأقصي ما استطاع صاحبها وكما يقول الباحث سمير مرقس في مقدمة أخري للكتاب فان تلك المحاولة كانت خطوة إلي الامام من حيث الصياغة والأخذ بالمنهجية العلمية في دراسة العلاقة بين المسلمين والاقباط ولن يصعب علي القارئ ان يكشف عن ولع صاحبها بالنظرية المادية في تفسير التاريخ. ومن ثم فإن القراءة الصحيحة لمضمونه مرهونة بالقدرة علي التعاطي دون رغبة أي طرف في استخدامه أو توظيفه بما يخدم احتياجات عاجلة تبرر مأزق اللحظة الراهنة. ويكشف الفصل الاولي كيف ان المسيحية المصرية قبيل الفتح الإسلامي كانت بالنسبة للشعب المصري أداة للتحرر السياسي والتخلص من نير الحكم البيزنطي ويعتقد المؤلف ان الموقف الذي تبنته الكنيسة المصرية في الصراع المذهبي حول طبيعة المسيح هو موقف قومي أكثر منه موقف ديني, فقد كانت المسائل الدينية في ذلك العصر موضع المناقشة الوحيد.. وبالتالي كانت الساحة الوحيدة التي يمكن ان يحتدم فيها القتال.. ومن ثم اعلن الشعب القبطي تحت قيادة رؤسائه الدينيين عصيانه علي مبدأ الكنيسة الموحدة وينتهي تاجر في الفصل الاول إلي التأكيد علي أن الشعب المصري لم يعاون الروم في قتالهم ضد العرب. ولم يكن يطمح من الناحية الوطنية الا بشبه استقلال اساسه حرية العقيدة الدينية وخفض الضرائب وهي السياسة التي سار عليها عمرو بن العاص عند دخول مصر معبرا بصورة مطلقة عن طموحات العرب في تلك الفترة وهي التي كانت مقصورة علي رغبتهم في التوفيق بين مبادئهم الدينية وغاياتهم العسكرية والاقتصادية, فحروب الجهاد بهذا المعني لم تكن سببا للفتح بل نتيجة له وبالاضافة إلي قضية دخول العرب لمصر وملابساتها يعالج الكتاب قضايا لا تزال محل نقاش إلي اليوم ومنها موقف الشريعة الاسلامية من أهل الذمة طارحا تساؤلات عن مدي التزام الحكام المسلمين بتطبيق القواعد الشرعية تطبيقا كاملا ومن دون مخالفات كذلك يناقش موقف الصليبيين من النصاري علي ضوء سياسة صلاح الدين والأيوبيين إزاء الأقباط خلال فترة الحروب الصليبية وعلي الرغم من وجود مرويات تاريخية في شأن العلاقة الجيدة التي جمعت صلاح الدين بأهل الذمة( وفق تعبيرات العصر) الا ان المؤلف يعتقد ان تسامح صلاح الدين مع النصاري الشرقيين يعود إلي ان هؤلاء النصاري سهلوا له مهمة الاستيلاء علي بيت المقدس, لكنه رفض الاعتراف بالامتيازات التي حصل عليها هؤلاء في عهد الفاطميين, ومن المحتمل ان يكون اخراجه الذميين من وظائفهم بمثابة حركة تطهير أجريت ضد الفاطميين أكثر منها بغضا ضد النصاري. ويرصد المؤلف الحالة الدينية خلال الستة قرون التي سبقت عهد محمد علي الكبير, لافتا إلي انه لم يقع حادث طائفي يستحق الذكر.. مشيرا إلي ان بعض الاقباط شغلوا بعض المراكز الكبيرة في الدولة وهو وضع استمر طوال عصر محمد علي الذي اختفت فيه الاعتبارات الدينية وخلت محلها الاعتبارات الوطنية الصرفة وينتهي المؤلف في الاستخلاصات الختامية إلي استعادة النقاشات التي دارت حول وضع الاقباط في دستور1923 وبالتحديد الاراء التي ساقها عبدالحميد باشا بدوي التي تعتقد انه لا يمكن الوصول إلي حل حقيقي لأي مشكلات طائفية قد تنشأ لا في ظل حياة مدنية محكمة ومنظمة وهذه الرسالة التي ارادها الكتاب.