ماذا أصاب المصريين؟ وهل الانسان المصري بمواصفاته الحالية يصلح لأن يكون سندا لأي تحول ديمقراطي أو ارتقاء تنموي؟ هل هذه النوعية من البشر يمكن أن تنتشل مصر من عثرتها وتقودها إلي تقدم حقيقي؟ أسئلة قد تبدو في منطوقها مهينة وبعيدة عن اللياقة وتعميمية وظالمة لشعب حضارته متجذرة في التاريخ, لكنها تعكس في الوقت ذاته حالة من الاندهاش والاحباط لما أصاب الشخصية المصرية من تكلس قيمي وأخلاقي أوصلها إلي حالة من الدونية, والعدمية أحيانا, فأصبحت كل اهتماماتها تركز علي الحاجات الضرورية والغريزية, التي تسلك لها سبلا غير شرعية وتمارس في سبيلها أعلي مستويات الكذب, وتقبل أي إهانة, وترتكب أي مخالفة بضمير مطمئن! (1) الشعب يتنفس كذبا, عبارة صادمة قالها لي صديق, وهي تؤكد وجود ظاهرة حقيقية تهدد المجتمع في الصميم, إذ خطورة الكذب تتعدي حدود المتعاملين به إلي التأثير السلبي علي بنية الدولة السياسية والاقتصادية وتدمير العلاقات الاجتماعية بين أبنائها, ولعلنا نلحظ أن الدول المتقدمة تعتبر الكذب جريمة كبري ولا تتسامح مع مرتكبه أبدا خصوصا في المستويات القيادية, في حين تتسامح أحيانا مع جرائم من وجهة نظرها دون هذه الجريمة. ستسمع مثلا من يكذب عبر الهاتف المحمول علي الملأ ولا يستحي من نفسه, فيخبر الطرف الآخر أنه سيصله بعد خمس دقائق وهو يعلم يقينا أنه لن يصل إليه قبل ساعة, وستسمع من يؤكد أنه في المكان الفلاني وما هو فيه حقيقة, وأكثر من ذلك يحدث, إما تهربا من استحقاق أو تسويفا في موعد, وما يدري هذا الكاذب أنه لو صدق سيوفر جهد غيره وساعات انتظاره التي يمكن أن يستفيد منها في إنجاز مصلحة ما, كما سيعفي نفسه من ملاحقة الآخر الذي أخذ وعدا مكذوبا, وسيريح ضميره في الوقت ذاته إن كان له بقية من ضمير. (2) كثير من الناس يتعامل بوجهين فيمتدحك في وجهك ويسبك في ظهرك, وهذا مرتبط بأمراض نفسية أصبحت شائعة منها الحقد, والحسد, وهي آفة وصف رسول الله محمد صاحبها بأنه من شر الناس, فعنه صلي الله عليه وسلم قال: تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه. قال الحافظ بن حجر العسقلاني في كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري: قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق إذ هو متملق بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس, وقال الإمام النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها, وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع وتحايل للاطلاع علي أسرار الطائفتين, وهي مداهنة محرمة.. بعد هذا الكلام الواضح, هل أصبحنا حقا مجتمعا من الأشرار؟ (3) الافتراء أصبح سلعة رائجة في أوساط المصريين, خاصة مع ما تشهده البلاد من ظروف سياسية وأمنية مضطربة, فتجد الشائعات والوقائع الملفقة المنشأة من عدم تروج علي أنها حقائق, وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: أفري الفري أن يري الرجل عينيه ما لم تريا, ونحن بالفعل نري جبالا من الفري تضخها أجهزة ووسائل إعلام وأشخاص دون حد أدني من الحياء. (4) الجدل وغياب الحد الأدني من أدبيات الحوار يكاد يكون سمة مصرية خالصة, فقد زرت عدة دول لم أجد فيها أن الحوار يتحول إلي مكلمة صاخبة وينتهي بتبعات مؤلمة منها سوء الظن والتأويل والتحامل علي الآخر والتشكيك في النوايا والسلوكيات. وهناك من الظواهر السلبية مما لا يتسع المجال لحصره, ولكنها جميعا تؤكد أن الشخصية المصرية مسخت عمدا مع سبق الإصرار, ومورست عليها كل أنواع القهر عبر60 عاما فأحالتها إلي كائن غريب لا تري له مثيلا في عالمنا. نحن بالفعل أمام معضلة حقيقية تحتاج للخروج منها إلي إعادة صياغة إنسان ما بعد الثورة وبنائه بشكل مختلف, بما يعيد إليه ثقته بنفسه ويجدد فيه مكارم الأخلاق, وإلا سنظل ندور في حلقات مفرغة ولن نشهد أي تقدم يذكر. [email protected]