القلق والألم رسما معالم حدتهما بوجهها النحيل.. لكنه لم يستطع أن يطفئ ذلك الصفاء المشع من عينيها ببهاء غريب.. أشبه بلوحات القديسيين التي يرسمها الفنانون.. متفانية جدا في عملها.. خبيرة في مغالبة الأفكار غير الطيبة.. التي كثيرا ما تفلح في زحزحتها بعيدا عنها.. في العقد الثالث.. اعتادت الفصل بين العمل والكلمات الخشنة والمضايقات المتكررة من بعض العملاء.. كجزء من طبيعة الحياة لا مفر منه ولا حيلة فيه.. اللغة الانجليزية وبرمجة الكمبيوتر اللتان تجيدهما أهلاها لهذه الوظيفة المرموقة في إحدي الوكالات الكبري التي تعمل في مجال الاعلان المرئي والمسموع.. ابتسامتها تشي ببعض لطف.. ومزيج من الحكمة المشرقة.. لا تضع أدوات الزينة بوجهها.. يكفيها ضوء الصباح وألوان النسيم.. اعتاد صاحب العمل مشاركة العاملين معه في غذاء عمل يومي.. لإشاعة البهجة والألفة.. ومناقشة المقترحات التي يبديها البعض وتلافي السلبيات.. حلو الحديث.. أليق به دور المعلم في مدرسة.. أربعيني مطلق لديه طفل وحيد يشبههه كثيرا.. لديه قدرة مدهشة علي ثبات الكأس وقت الزلزلة.. عيناه واسعتان سوداوان مشرقتان.. تمنح الناظر إليهما شعورا بالسكينة والاطمئنان.. لفت نظره أثناء غذاء العمل.. أن الثلاثينية لا تتناول غذاءها.. بل تضعه بعناية في شنطة يدها.. لا يدري سببا لذلك.. ولأن الاعلان الأخير نجح وجذب الكثير من العملاء.. فقد أعطي العاملين مكافأة مالية.. هناك نساء حباهن الله سحرا لا تدركه الحواس.. يجذب الناس كما يجذب المعدن حجر المغناطيس.. وهذا ما وجده لدي الثلاثينية.. التي قرر أن يتبعها بعد الانتهاء من العمل.. توقفت طويلا أمام فاترينة للملابس الجاهزة.. دخلت المحل وخرجت دون أن تشتري شيئا.. خطواتها واثقة.. تحلق كفراشة لا تقدر جاذبية الأرض علي الامساك بها.. من شوارع واسعة تنتهي إلي شوارع ضيقة.. دخلت محلا يبيع الدواجن الحية والمذبوحة.. اشترت شيئا لم يتبينه.. دخلت أجزاخانة.. تغيبت بعض الوقت.. لتخرج بكيس مملوء بالدواء.. البيوت شكلها غريب لم يره من قبل.. فوق مرتفع أشبه بلعبة السلم والثعبان.. المنطقة جبلية.. فقيرة الخدمات.. دخلت بيتا.. كأنه تخلف عن بناء لم يكتمل.. دور وحيد يفضي إلي غرفة.. طرق الباب الدهشة أربكت الثلاثينية الغرفة نصف معتمة.. يتوسطها سرير نحاسي قديم.. ومنضدة وكرسي تجلس عليه عجوز مريضة.. يبدو أنها الأم.. والدواء الذي اشترته الابنة كان لأجلها.. تأكل من الطعام الذي ادخرته الابنة.. رحبت به الأم بعد أن عرفت فيه صاحب العمل.. طلب مشاركتهما الطعام.. لأول مرة يأكل أجنحة وهياكل الدجاج.. وهو ما اشترته الابنة لغذاء اليوم.. كم كان طيب المذاق.. تدعو له الأم التي تشبه كثيرا أمه.. والتي اشتم فيها رائحة الزعتر والمسك.. كان لديه خوف من الزواج.. والخوف ظل العائق الأكبر.. أمام تحقيق أشياء عظيمة.. فالنساء لسن كلهن متشابهات.. الحياة تتشكل عبر مجموعة مصادفات.. تصنع أحداثها دون تدخل منا.. لم تصدق وهو يطلبها للزواج المشروط.. أن تنتقل والدتها معها لترعاها وطفله.. بعد أن عرف أنها العائل الوحيد لأمها العجوز بعد وفاة والدها المفاجئة.. تدمع عين الأم وتتبعها الابنة.. التي ارتدت ثوب الفرح المغزول من دمعات الأم.. حكي عن أسباب طلاقه لامرأة غير مسئولة.. غلبت مصالحها الشخصية علي مصلحة الأسرة وطفله.. تحركت يده لتحتضن كفها النابض والتي كانت في اختلاجها.. كما الطائر الصغير لتستكين.. غمرة الجو الأسري الدافئ وحبها لأمها.. الطمأنينة والثقة.. ابتسامتها تذيب الجليد.. وتنشر الارتياح.. وتبلسم الجراح.. وديعة وطيبة.. قادرة علي عطاء ما تعجز نساء كثيرا عن إعطائه. [email protected] رابط دائم :