منطقي جدا بعد أي ثورة يتحول بها المجتمع من الصيغة الاستبدادية الشمولية إلي الصيغة الديمقراطية المؤسسية أن يحدث بعض التعثر, لكن غير المنطقي أن تتحول أمنيات بعض نخب المعارضة وإرادتها في التغيير إلي عراك أجوف وممارسات صبيانية صغيرة تحول دون تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة. هذا يعني بوضوح أن العبث بمقدرات الدولة ومحاولات إفشال النظام القائم تطغي علي أي رغبة في الإصلاح لدي هذه النخب وتخفي تحتها عدم قدرة حقيقية علي تقديم بدائل عملية بناءة من شأنها أن تخرج البلاد من حالة الاحتقان السياسي والانهيار الاقتصادي الذي تعانيه. صحيح أن لمؤسسة الرئاسة والحكومة أخطاؤهما السياسية والعملية, لكن أن تطفو علي السطح منذ مجيء الدكتور محمد مرسي إلي السلطة, بانتخابات نزيهة شهد لها العالم أجمع, نغمة المطالبة بإسقاط الرئيس وطرح بدائل تعيدنا إلي الوراء مثل المطالبة بتشكيل مجلس رئاسي أو استدعاء الجيش للمشهد السياسي مرة أخري, فهذا ينم عن رغبة خبيثة في تعطيل الدولة ذاتها وجرها إلي الهاوية. ولم يكن حجم المناكفات السياسية, بل والأمنية, بعد مجيء أول برلمان منتخب أقل شراسة وضراوة مما جري ويجري مع مؤسسة الرئاسة والحكومة الآن, إذ استخدمت كل الوسائل لهدم أول مجلس تشريعي منتخب انتخابا حقيقيا من الشعب, وانتصرت إرادة قلة قليلة علي إرادة جموع المواطنين, وكانت سابقة حل المجلس أول محاولة انقلابية ضد الثورة. والمشكلة الحقيقية تكمن في أن كراهية التيارات العلمانية والفلولية لصعود التيار الإسلامي لسدة الحكم وظهوره بعد الثورة قد أعمت أولئك عن الحقائق المجردة وكشفت عن حبهم الشديد للاستبداد والفساد وبغضهم الديمقراطية وكفرهم بها طالما أتت بفصيل ليس علي هواهم, رغم أن هذا الفصيل هو من دفع القسط الأكبر من ثمن الحرية وعاني ما لم تعانه تلك التيارات التي كانت مصالحها مرتبطة بالنظام السابق ارتباطا وثيقا ومتماهية معه إلي أقصي حد. مدهش حقنا أن من كانوا في حضن النظام المخلوع من مفكرين وسياسيين وإعلاميين يتحدثون الآن بلسان الثورة والثوار ويمارسون أبشع أنواع التضليل للرأي العام بالكذب الصريح وتلبيس الأمور علي الناس, وإذكاء الفتن, وإبداء الكراهية لكل من يحاول أن يسهم في بناء تحول سياسي واقتصادي واجتماعي حقيقي. لقد أثاروا الغبار ومازالوا حول كل تصرف تقوم به المؤسسات المنتخبة, وانتقلت المعارضة من الدعاية السوداء إلي إحراق مؤسسات الدولة والممتلكات الخاصة وتوفير غطاء سياسي لأعمال العنف التي تتجدد بأشكال مختلفة يوميا وبطريقة ممنهجة, وكلها محاولات لتعطيل مأسسة الدولة والانقلاب علي الشرعية وتأخير أي استحقاق انتخابي من شأنه أن يحقق مزيدا من الاستقرار. ولعل حالة التلاسن التي لا تهدأ أبدا وتصدير مصطلحات أو منحوتات لفظية جديدة من قبيل يسقط حكم المرشد وأخونة الدولة واتهام الرئيس بأنه ديكتاتور وفاشل واتهام الحكومة بالفشل والمطالبة الدائمة بتغييرها, كل ذلك يعني أن هناك إرادة للرجوع إلي الوراء, حيث الفساد بأبشع صوره والاستبداد بكل ألوانه, وإبقاء الإنسان المصري ذليلا خانعا تقف طموحاته عند حدود لقمة العيش والاحتياجات الأساسية فقط, وهو ما كان النظام البائد ناجحا فيه بامتياز. وإذا قلنا إن الإنسان هو جوهر التنمية وصانعها والمستفيد الأول منها, فإن محاولات التغيير والتقدم إلي الأمام في ظل وجود إرادات خارجية وداخلية تتسابق علي تضليل الإنسان المصري وتيئيسه وتكريس حالة الإحباط والانفلات الأخلاقي تقلل من فرص نجاح أي نظام يتبني التغيير والانتقال إلي الأمام مهما أوتي من علم وحكمة وقوة, وسيكون من الصعب, إن لم يكن مستحيلا, أن نري مصر كما نريدها. ولا أبالغ إذا قلت إن هناك منظومة عالمية, تنضوي تحتها أجهزة مخابرات وحكومات ومؤسسات, لا تريد لمصر نهضة أبدا خصوصا في ظل حكم إسلامي, وكل ما نراه الآن هو محاولات حثيثة لإفشال أي مشروع إسلامي يتبناه أناس يخشون الله, بغض النظر عن انتمائهم. إن محاولات الإصلاح الآن تصطدم بميراث رهيب من الفساد وبإرادة دولية لا تقبل أي نهوض لبلادنا إلا بما يوافق مصالح أطراف داخلية وخارجية, بعضها متربص ويخشي التحولات الجديدة التي أتت بنماذج فكرية وشخصيات ليست علي الهوي, وبعضها لديه استعداد لإحراق كل شيء مقابل ألا تقوم للمشروع الإسلامي قائمة, وهذا ما لن يحدث بإذن الله. [email protected] رابط دائم :