يخطيء الانسان كثيرا حين يتصور أن عالمه هو العالم الوحيد في الأرض فيتمرد ويعربد, ونمعن في الخطأ والتمرد إذا جهلنا أو نسينا أننا نعيش في كونية متوازنة بعوالمها وكائناتها: فأكبر الكائنات في هذا الوجود محتاج إلي أصغرها, وأعظمها في حاجة إلي أحقرها( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) قد تمر بالانسان لحظات من الغرور يعشق فيها ذاته حتي يصل إلي نرجسية غريبة يعايشها مخمورا بنشوة الذات ذاهلا عن أصداء الكون وإيقاعه المنسجم غير مكترث بما حوله من كائنات وعوالم وكأنه جاء إلي الوجود ليعيش فوق رؤوس البشر فإن نازعه في هذه الفوقية منازع, أو خذلته أوهام الجلوس فوق القمم فرأي نفسه في السفوح مواطنا في دولة أو مجرد فرد في شعب كبير صاح كالوحش الجريح ليدمر كل ما حوله. ولو أن الانسان عقل ولم ينظر إلي الحياة بغريزة الوحش وعقلية الأطفال وضع غروره تحت قدميه وربما أدرك أنه عاجز عن مواجهة الحياة معزولا عن الناس وقد يجد نفسه فردا أو شعبا في أشد الحاجة إلي حشرة صغيرة تحفظ له توازنه المادي والاجتماعي, ففي أحد الأعوام فوجئت أمريكا بأن ثروتها الزراعية معرضة للضياع بسبب النباتات البرية التي انتشرت في الحقول بغزارة تؤذن بالخطر وهلاك المحاصيل, وفكروا في كل وسيلة للخلاص من هذه النباتات الضارة ثم انتهي الأمر بالعلماء إلي اكتشاف نوع من الحشرات تتغذي علي هذه النباتات فأطلقوها في الحقول بكميات محسوبة فكانت المفاجأة أن اختفت كل النباتات الضارة, وسلمت الثروة الزراعية للبلاد.. معني هذا أننا في بيئة إنسانية متوازنة ويمكن أن تؤدي فيها الحشرة دورا بالغ الأهمية في حفظ اقتصاد البلاد ويمكن أن تلعب الحشرة دورا مؤسفا في تدمير الاقتصاد كما في أسراب الجراد من أسراب لا تنطوي علي بغض لأحد, ولا تنتمي إلي حزب من الأحزاب ولكنها تندفع بإلهام فطري إلي البيئات التي فقد فيها الانسان توازنه مع البيئة وانسجامه مع الكون فصار عربيدا يقترف المآثم وينام نومة المجرم الذي أمن العقاب غافلا في سياسته العقيمة عن الكوارث الكونية التي تنزل بالمتمردين والمشغولين بأنفسهم عن أي خطر داخلي أو خارجي ومهما يكن تفسيرنا الجغرافي أو العلمي لحركة الجراد فإن أسرابه تحمل إلي الشعوب إنذارا بالقضاء علي الأخضر واليابس إذا ظلت هذه الشعوب في همجية وفوضي, وانتشر أبناؤها في الميادين كالجراد الذي يقضي علي خضرة الحياة ونباتها البهيج. فإذا لم تفطن الشعوب إلي هذه الآية الكونية, وتبلد الحس إلا من إشارات سريعة في الصحف فلتنهض أسراب الجراد بما ينهض به الأفراد في مجتمع أصابه الخلل في موازينه السياسية والاجتماعية والاقتصادية, وإذا هانت البلاد علي أهلها, واستهانت باقتصادها كانت في حاجة إلي آية كونية تبعث الخوف في النفوس( وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) لكن يبدو أن وصول الجراد إلي شرق القاهرة لم يحرك فينا ساكنا, ولم يشغلنا عن المهاترات السياسية والحزبية, ويبدو كذلك أن الخرق قد اتسع فصارت المصائب لا تجمع المصابين عند بقعة من الضوء تلتقي حولها كلمات الشارد والشاردة, فالشعوب علي اختلاف عقائدها نظامها السياسي قد تفرقها المطامع ولكن يجمعها الخطر في حادث أليم أو زلزال يضرب البلاد أو إعصار مخيف كما حدث أخيرا في بعض الولاياتالأمريكية. وقد تعرض المصريون لتجربة مفزعة مع الزلزال هزت النفوس هزا عنيفا حتي شعرنا وقتها بأن المصريين جميعا صاروا لسانا واحدا وقلبا واحدا يواسي بعضهم بعضا, ويشد بعضهم أزر بعض, وربما نسي العديد من الناس خلافاتهم وخصوماتهم, وأحسوا أنهم أمام آية كونية لا يملكون لها دفعا إلا بطهارة النفس والتماس الرضا من الله حتي خيل إلينا وقتها أن الكل صار في واحد, وأن الشعب المصري عاد إلي طبيعته الجميلة في أوقات الشدة فلا تسمع علي الألسنة إلا التضرع يارب( فلما نجاهم إلي البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور)32 لقمان.. ومرت بمصر أحداث قدرية هي أقرب إلي الكوارث فجعلناها وقودا للخلافات السياسية والحزبية, وتحت وطأة هذه الخلافات هانت علينا مصر باقتصادها المؤسف, وهانت علينا الحقوق التي ننتظر ثمارها بلهفة المحروم حتي غفلنا عن الهجوم المتوقع لأسراب الجراد ولم نستيقظ إلا بعد اقتحام الحدود. وقد نشعر بالخجل وربما بشدة الخوف ونحن نري الجراد يحمل إلينا الانذار الذي حمله إلي بني اسرائيل والغريب أننا لم نقرأ الانذار ولم نشعر بالفزع فالشعب معذور وصدره ضائق بما يجري حوله من مصائب, أما النخبة كما يسمونها فهي مشغولة بأهواء السياسة وليس عند الجميع وقت لأن يشغل نفسه بأمن البلاد أو أمن الحدود من هجوم الجراد أو حتي هجوم عدو يتربص بالبلاد, أو كما قال شاعرنا: فصرت إذا أصابتني سهام. تكسرت النصال علي النعال رابط دائم :