لم تعرف هبة شيئا عن صخب الدنيا و دوشتها فقد أتت إليها بلا قدرة علي السمع أو الكلام. احتضنها الصمت منذ اللحظة الأولي لها في هذه الدنيا وأحاط بها عجزها الصامت يوما بعد يوم تكبر ويكبر معها ولكن وعيها بنفسها وبالحياة لم يعجز معها فاستطاعت أن تتعايش مع الدنيا حتي باتت فتاة رقيقة بها مسحة من جمال الخلق والروح أيضا. لم تكن الابنة الوحيدة ولكنها كانت الفريدة فهي من بين شقيقتيها الأجمل والأهدأ بطبيعة الحال. تنزوي دائما في ركن خاص بها تأنس بعالمها الخاص, حتي أحلامها وخيالات العاطفة التي بدأت تسكن قلبها مثلها مثل كل الفتيات ممن هن في مثل سنها. كانت ذات طبيعة خاصة فهي لا تحلم بفارس رومانسي يأتي إليها راكبا فرسا ويحملها ويذهب بها بعيدا.. هي تحلم بإنسان مثلها يشاركها الصمت ويعيش معها فيه. لقد تحول الصمت في صدر هبة إلي عالم حقيقي تعيش فيه بصدق أما العالم الذي يعيشه الآخرون فهو الاستثناء غير الطبيعي. ولأنها كانت صادقة في أحاسيسها ومشاعرها كانت سعيدة ولم يبخل عليها القدر بتحقيق أحلامها البسيطة وأراد لها أن تقابل الشخص المناسب لها في مدرسة الصم والبكم التي كانت تدرس بها. كان شابا يافعا قسمات وجهه هادئة تبدو عليه مقومات الرجولة بدنا وروحا ولكنه مثلها ولد في دائرة الصمت لم يتعرف علي أصوات البشر ولم يستطع حتي أن ينطق بحرف من حروف كلامهم. يعتمد دائما علي إحساسه بالآخرين.. يستطيع أن يفهمهم من نظراتهم وحركات أيديهم وتعبيرات وجوههم عندما تعرف علي هبة جمع بينهما الصمت.. أحس كل منهما بالآخر وتعانقت مشاعرهما الصامتة وامتلأ قلباهما بمعان كثيرة لا تستطيع أي كلمات في الدنيا أن تعبر عنها. تقدم للزواج منها بعد أن أنهيا دراستهما واستطاع العمل في هيئة النقل العام بنسبة الخمسة في المائة للمعاقين ورغم راتبه البسيط استطاع أن يؤجر لها شقة بنظام التعاقد بالإيجارات الجديدة وبمساعدة الأهل والأصدقاء تأثث البيت وبدأ كل منهما مشوار حياته إلي جوار الآخر وتحول الصمت الساكن بينهما إلي لغة حوار خاصة بينهما. تنظر إليه فيعرف ماذا تريد ويجيبها بنظرات عينيه أيضا واجتهدت حتي تسعده وكم كانت فرحته عندما علم بحملها وسريعا أهدته طفلة جميلة أسمياها نسمة لأنها كانت النسمة الرقيقة التي تلطف عليهما الصراع مع الحياة وتدبير لقمة العيش وكبرت نسمة ولكنها كما ورثت من أمها رقتها وجمالها ورثت عنها وعن أبيها ميراث الصمت وكأنها تقول لهما أن حياتهما الصامتة هذه أفضل بكثير من حياة الصخب والدوشة التي اعتاد عليها البشر. وكبرت فرحتها بها واكتملت الفرحة عندما جاءت شقيقتها سماح إلي الدنيا بعدها بست سنوات ومثلها مثل شقيقتها ولدت في دنيا صامتة ليكتمل موروث الصمت بها. ولأنه ليس دائما تأتي الرياح بما تشتهيه السفن توقفت رحلة السعادة الصامتة عندما تعرضت هذه الأسرة لحدث أشبه بالزلزال هز كيان الأسرة عندما سقط الأب مريضا لفترة طويلة انتهت بضعف بصره بصورة كبيرة تقترب من العتمة ليصبح عاجزا علي العمل قابعا في جدران بيته بلا حراك يتملك منه اليأس إلي مدي بعيد خاصة وأن صاحب العقار الذي يسكنون عنده يهدده بالطرد هو وأسرته بحجة أن عقد الإيجار المؤقت انتهي وعليه إن أراد أن يستمر في الشقة أن يدفع مبلغ عشرة آلاف جنيه مقدم إيجار لكي يحصل علي عقد إيجار لمدة خمس سنوات. ولكنه في عجزه شبه المتكامل هذا لا يملك هذا المبلغ ليستر به أسرته ويحميهم من مصير مجهول بطردهم إلي الشارع. حضر الأب وزوجته هبة وابنتاهما نسمة وسماح إلي الأهرام المسائي يبحثون عن بارقة أمل لعل محافظ القاهرة يرق لحال هذه الأسرة ويستجيب للطلب الذي تقدم به الأب محمود عبد النبي للحصول علي شقة من شقق المحافظة منذ عام1993 ومنذ ذلك التاريخ والطلب مجمد داخل أدراج موظفي المحافظة. رابط دائم :