مقاطعة الشيء أي البعد عنه وتجنبه غالبا لما فيه من مضار وأخطار ثابتة. ومقاطعة العمل هو فعل سلبي ضد منطق الحياة, فلا عيش دون عمل. أما مقاطعة السياسة فهي فعل احتجاج عمد ي يهدف إلي تغيير قواعد اللعبة السياسية قبل ممارستها. وأهم ما في العملية السياسية المشاركة في صنع القرار والترشح في الانتخابات وممارسة حق التصويت والاختيار. وحين يلجأ طرف من أطراف العملية السياسية للمقاطعة نصبح أمام أحد تفسيرين رئيسيين يتفرع عنهما أسباب عديدة, التفسير الأول هو أن هناك عطلا كبيرا في آليات العملية السياسية يحول دون أن تكون حافظة لحقوق الممارسين لها وكاشفة عن اختياراتهم الحرة. أما التفسير الثاني فهو أن المقاطعة جزء من برنامج ثوري أو احتجاجي يهدف إلي إحداث تغيير جذري في طبيعة العملية السياسية. وبينما التفسير الأول يقدم الجانب السلبي الإكراهي للمقاطعة, يعبر التفسير الثاني عن الجانب العمدي للمقاطعة ولكنه يحتاج التزاما شعبيا عارما لم تصل إليه مصر بعد. والتفسيران معا يصلحان لتحليل المواقف الداعية لمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة. فالموقف الغالب لدي أحزاب المعارضة السياسية لاسيما جبهة الانقاذ هو أن الانتخابات البرلمانية المقبلة بحاجة إلي ضمانات شاملة تحقق النزاهة والشفافية والاختيار الحر, وقبل ذلك بيئة سياسية تشهد حدا أدني من التوافق الوطني علي عدة قضايا, في مقدمتها التعديلات الدستورية التي وعد الرئيس محمد مرسي بإنجازها بعد انتخاب البرلمان الجديد, وقانون انتخابات يسمح بالمنافسة الحقيقية دون انحياز لأحد, ودوائر انتخابية تقسم وفقا لمعيار العدالة. ومعني ذلك أن جبهة الانقاذ أو جزءا كبيرا منها يري أن المقاطعة ذات طابع إكراهي, ويسعي إلي تغيير العوامل المسببة لهذا الإكراه عبر حوار وطني ممنهج لا يقصي أحدا ومشمول بضمانات التنفيذ لما يتفق عليه. لكن المقاطعة ليست طريقا في اتجاه واحد, فكما يمكن أن تكون آلية للضغط علي الطرف الآخر, يمكن أيضا أن تدفع بأصحابها إلي قرارات ومواقف مشوشة تؤثر سلبا علي علاقتهم بالمواطنين, ومن ثم يتأثر مستوي الشعبية والوزن النسبي لهم في المجتمع. وحتي اللحظة تختلط مواقف جبهة الانقاذ بين توظيف المقاطعة كآلية للضغط من أجل إصلاح بيئة الانتخابات المقبلة, وبين توظيفها لإحداث التغيير الكلي للنظام بعد ربطها بدعوات العصيان المدني الآخذة في البروز في أكثر من مدينة وموقع. وهناك من يراهن علي أن تصبح المقاطعة بمثابة خطوة أولي نحو إسقاط النظام الحالي تماما كما كانت مقاطعة انتخابات برلمان2010 من قبل بعض الأحزاب السياسية وفي مقدمتها الوفد, سببا مهما من أسباب نزع الشرعية السياسية والأخلاقية والمعنوية عن برلمان2010 الذي استحوذ عليه الحزب الوطني المنحل, ومن ثم شكل الأمر بيئة شعبية رافضة للبرلمان وللحزب الوطني وللرئيس السابق ولأبنائه ولكل من تحالف معهم من مؤسسات وأفراد ورجال أعمال, وهي البيئة التي سهلت لاحقا من نجاح الثورة الشعبية في يناير2011. وفي هذا السياق أصبح الحديث عن إسقاط البرلمان المقبل وعدم شرعيته وقابليته للتزوير وعدم شرعيته الأخلاقية والشعبية أمرا معتادا ومكررا, في الوقت الذي لم تحدث فيه الانتخابات بعد, ولم يعرف من شارك ومن لم يشارك. وفي الأمثال الشعبية يقال إن العيار الذي لا يصيب فإنه يدوش أي يثير البلبلة والتشوش الفكري. ومن اليسير جدا أن نرصد من مظاهر التشوش والبلبلة السياسية وغياب الحكمة وفقدان البوصلة. وما يحدث تحت مظلة شعار العصيان المدني في بورسعيد والمنصورة والاسماعيلية وميدان التحرير وغيرها, وهو أحد أكبر نتائج هذه الحالة من التشوش السياسي الجارف الذي يعصف بالمصريين جميعا, نخبة وعامة, مسئولين حكوميين ورموز معارضة علي السواء. والتحدي الذي يواجه الجميع الآن يعني بكيفية الخروج من هذه الحالة والتقدم ولو خطوة واحدة نحو تجميع الأمة والخروج من حالة الارتباك والترصد والتشوش السياسي. ولعل الاتفاق علي بعض المباديء قد يساعد علي فتح ثغرة في النفق المظلم, مثل الاتفاق علي ضرورة أن يكمل الرئيس مدته الرئاسية, وأن تعدل مباديء الدستور محل الصراع, وأن تتوافر ضمانات للانتخابات المقبلة لا شبهة فيها, وأن يرشد حق التظاهر والاعتصام, وأن تتوافق الأمة علي سياسة اقتصادية ذات توجه تنموي شامل, وأن يبعد الدين عن الصراع السياسي, وأن يدخل الجميع في حالة هدوء لبناء الثقة كمرحلة أولي, وأن يبعد كل من الجيش والداخلية والقضاء عن النزاع السياسي ويتم التأكيد علي وطنية هذه المؤسسات وعدم إضفاء أي طابع حزبي عليها. وأن يترك للقضاء حل مشكلاته وفق القواعد والأطر القانونية دون تدخلات خارجية. هذه المباديء بحاجة إلي حوار وطني مسئول, يدعو له الرئيس مرسي وفق برنامج عمل واضح, ومشاركة من كل القوي السياسية ومدة محددة لإنجازه, مع التزام كامل بتطبيق كل ما يتم التفاهم حوله والاتفاق عليه بدون أي التفاف أو دوران. وتلك مسئولية مشتركة من كل الذين يقبلون بالحوار الوطني الشامل, وبعدها يشارك الجميع في الانتخابات, حتي ولو تم الاتفاق علي تأجيلها لمدة شهر أو شهرين علي الأكثر, ويترك للقانونيين إيجاد المخرج القانوني المناسب. إن انتخابات بدون توافق وطني لا معني لها وضررها أكبر من نفعها وتبرر مقاطعتها, ومقاطعة بدون رؤية سياسية شاملة للخيارات المستقبلية يصبح الأمر كمن يلعب بالنار بجوار فنطاس مهتريء ومملوء بالبنزين, ورفع شعارات للعصيان المدني وإجبار الناس علي ترك أعمالهم عنوة ودون اقتناع يدخل في باب التخريب وحرق المراحل. وعلي الجميع أن يعي أن مصر أكبر منهم جميعا. رابط دائم :