أنا امرأة كتبت عليها الأقدار أن تمتحن امتحانا عصيبا وأن أتجرع من كأس مرير سقيته لأمي في صباي بقسوة قلب متحجر وها أنا اليوم أسدد فاتورة عقوقي لأمي وكراهيتي لها وغفلة غرقت فيها سنوات طويلة قاطعت فيها وتنكرت لها..اعتبرتها ميتة وهي علي قيد الحياة ولم أشعر بأهمية وجودها في حياتي إلا بعد أن رحلت عن الدنيا لتشتعل مع رحيلها نيران الندم والحسرة علي ما اقترفته في حقها. قد تعجب ياسيدي من موقفي هذا ولكن رغم ما سوف أقصه لك من مبررات صنعت مني هذه الابنة العاقة إلا أن الزمن علمني وأنا في سن متقدمة الآن أنها كانت مبررات واهية هشة ليست دافعا لكل هذه الكراهية التي سكنت قلبي. في طفولتي كنت أعيش مدللة من والدي حتي أن أمي كانت تري تدليل والدي لي أنه مرضي ولكنه كان دائما يقول لها أنني ابنته الوحيدة ولايريد أن يقسو علي وكنت أتمادي في شقاوتي وأنا علي يقين من تسامح أبي وأنه لاعقاب5 لي علي أي شيء مهما فعلت.. ولكن سعادتي وشقاواتي الطفولية لم تدم كثيرا فقد صدمتني الدنيا صدمة مروعة عندما توفي والدي فجأة بعد رحلة قصيرة مع المرض. رغم وعيي الطفولي وقتها وحداثة سني إلا أن حزني كان شديدا وكنت أشعر أنه لم يعد لي في الدنيا من يحنو علي بعد أبي..وكنت أري في شدة أمي معي لكي تقوم أخلاقياتي وتربيتي تربية قويمة نوعا من القسوة والتعذيب وشيئا فشيئا كانت أمي تبتعد عني أو كان يتهييء لي ذلك وقتها..وزادت الشقة بيني وبينها عندما قررت أن تتزوج من رجل آخر بعد وفاة أبي. ساعتها بدأت الكراهية تملأ قلبي نحو أمي ومع الأيام كانت تكبر بداخلي خاصة مع معاملة زوجها القاسية..لم يكن يحبني ويتمني لو عشت بعيدا عنه حتي لا أذكره بوالدي ولكن الظروف حكمت أن أعيش أسيرة لتعذيبه حتي بت علي مشارف الجامعة ووجدت طوق نجاة لي بالخروج من هذا البيت نهائيا عندما التحقت بالدراسة في جامعة القاهرة والعيش في المدينة الجامعية.غادرت البيت دون ان اودع أمي وقررت يومها وأنا أستقل القطار من محافظتي بجنوب مصر للقاهرة ألا أعود لهذا المكان ثانية. اعتمدت في حياتي علي معاشي من أبي رحمه الله حتي أتممت دراستي..وطوال هذه الفترة لم أر أمي حتي في الاجازات..أرسلت لي كثيرا كي أزورها ولكني كنت أتلذذ بتعذيبها برفضي حتي تعرفت علي شاب ارتبطت به عاطفيا كنت أري فيه شبيها لوالدي وعندما قررنا الزواج أخبرته أني علي خلاف مع أمي لأبرر له عدم تواجدها في زفافنا. وعشت حياتي بعيدا عن أمي ورزقني الله بطفلة كنت أري فيها نفسي ولكن بفارق بسيط أنني كنت أدللها بصورة مرضية وأبوها كان دائما حازما معها..كان يريد لها أن تكون ذات شخصية قوية ونجح في ذلك إلي حد كبير حتي أنها عندما توفي والدها استقبلت نبأ وفاته بهدوء شديد وكأنها لم تحزن عليه..كانت شخصيتها القوية تشتد وتقسو علي كل شيء حتي نفسها وشيئا فشيئا كانت تبتعد عني أنا أمها..نفس الإحساس المرير الذي أسقيته لأمي في الماضي أتجرعه الآن مع ابنتي الوحيدة حتي أنها أعادت إلي ذاكرتي سيناريو العقوق الذي عشته في الماضي ورأيته في ابنتي التي كانت قاسية معي دون أن أقترف في حقها مايدفعها الي هذه القسوة معي حتي أنها وجهت لي الطعنة القوية التي طعنت بها أمي من قبل..ارتبطت عاطفيا بشاب وقررت أن تتزوج منه في غير وجودي..قالت لي ذلك وأخبرتني أنها مضطرة لذلك لأن الشاب الذي سوف ترتبط به خارج البلاد وأنه ينتظرها هناك حيث يتزوجان ولكن بعيدا عني..قالت لي ذلك بنفس البرود الذي اتسمت به شخصيتها.. لم تكن تدرك أنها تطعني في أمومتي..كان الأمر بالنسبة لها عاديا ولكنه لم يكن بالنسبة لي كذلك فأنا أعرف أنه دين أدين به وكان حتما علي أن أسدده. أكتب لك ياسيدي اليوم وابنتي بعيدة عني وقد أموت ولا أراها تماما كما ماتت أمي ولم تراني.. حرمتها مني فحرمتني ابنتي.. قتلتها بعقوقي وها أنا أتجرع من نفس الكأس..أبيت ليلي ساهدة..وحيدة..أسترضي النوم حتي أنام فهل كتب علي تجرع الكأس حتي آخره والموت بوحدتي. م ي القاهرة شيء مؤلم أن يعيش الإنسان منفسما بينه وبين نفسه تحيط به شرنقة من الوحدة والخوف تجعله لايحي ولايموت يستعزب جلد نفسه كل يوم وهو يتصور أنه يسدد فواتير قديمة تماما كما تفعلين مع نفسك. بالتأكيد الندم خطوة أولي ومهمة للتوبة واستدراك الخطأ والعدول عنه بل والعمل علي إصلاحه ولكن المغالاة فيه تفقده جوهره فيتوقف الانسان عند الخطوة الأولي معذبا لنفسه عاجزا عن إصلاح ما أفسد والتوبة لله تكفيرا عنه ولذلك أقول لكي يا سيدتي لاتستكثري من تعذيب النفس حتي لو كان إحساسك بالجرم نحو أمك مفزعا..عليك أن تستغفري الله وتكثري من الدعاء لأمك في عباداتك وثقي أن رحمة الله عظيمة تشمل كل عباده من المؤمنين وأن الله عز وجل لايرد من يطرق أبواب رحمته وغفرانه أبدا وإذا كانت أمك ماتت قبل أن تغتنمي رضاها, عليكي أن تبريها فلا تحزني لأنه يمكنك برها ولو بعد وفاتها فبر الوالدين لايقتصر علي فترة حياتهما بل يمتد إلي مابعد مماتهما ويتسع ليشمل ذوي الأرحام وأصدقاء الوالدين( جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله: هل بقي من بر أبواي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما, والاستغفار لهما, وإنفاذ عهدهما بعدهما, وصلة الرحم التي لاتوصل إلا بهما, وإكرامصديقهما( رواه أبو داود والبيهقي ويمكن الحصول علي البر بعد الموت بالدعاء لهما..قال الإمام أحمد:( من دعا لهما في التحيات في الصلوات الخمس فقد برهما). ومن الأفضل: أن يتصدق الصدقة ويحتسب نصف أجرها لوالديه). وهكذا يمكنك بر أمك والتكفير عن الخطأ في حقها. أما ابنتك إذا كانت الدنيا قد اخذتها بزهوها وبريقها الزائل فعليك أن ترسلي لها وتباركي لها الزواج وتحكي لها حكايتك وكيف أراد الله لكي التوبة وذكريها بقول الله تعالي:( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتي إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي أني تبت إليك وإني من المسلمين الأحقاف15 وقوله تعالي:( وقضي ربك الا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولاتنهرهما وقل لهما قولا كريماالإسراء23 وبمشيئة الله سوف تذوب قسوتها ويصلح الله من شأنها ويجمع بينكما علي خير.