المعروف عن شعب مصر في تاريخه الطويل أنه شعب متفائل لا يفقد الأمل مهما كانت ضخامة الأحداث. والجميل في شعب مصر أن نسيجه بريء من العنصريات والعرقيات التي ابتليت بها شعوب غيرنا وقد ظل هذا النسيج متماسكا بأصوات المآذن وأجراس الكنائس حتي هبت عليه أديولوجيات متعددة كانت أشبه ما يكون بأجسام غريبة لم يألفها الشعب المصري إلا في عهود الفساد وعملت هذه الأجسام الغريبة علي أن تخترق النسيج المتماسك اختراق المحتل الدخيل الذي يكشر عن أنيابه عند كل مقاومة ويضرب بكبرياء وعنف عند كل اختلاف.. ونعترف بأن تعدد الأيديولوجيات قد لا يشكل أجساما غريبة لدي الشعوب المتحضرة ولكنه في الأجواء المصرية نهض بما تنهض به العنصريات. والعرقيات في بلاد أخري حيث يغيب الوطن عن الذاكرة ويختفي تماما من بؤرة الشعور عند أي نزاع أو اختلاف أيديولوجي وهذا يفسر لنا الأحداث المؤلمة التي تتعرض لها البلاد ولا تخضع لمنطق العقل ولا تكاد تعرف في أي نظام ديمقراطي, فلأول مرة نري وطنا يذبح بالشعارات والشائعات, وتستباح كرامته باسم الحريات, وقد يكون جميلا أن نختلف رأيا وفكرا وسياسة وأحزابا ولكن ليس من المعقول فطريا أن تكون مأساة الوطن وعثراته موضوعا لسخرية الساخرين وشماتة الشامتين, وهذا إن يحدث فلأن الفطرة صارت ملوثة ذلك أن انتماء الانسان إلي المكان الذي اهتز فيه مهاده الأول ليس انتماء سياسيا أو دينيا وإنما هو شعور فطري تتأصل جذوره في النفس علي مر الأيام, وله فيها رجع جنين يظهر واضحا كلما اغترب الانسان عن موطنه أو رحل إلي بلاد بعيدة, وفي تراثنا حديث طويل عن الغربة والاغتراب عن الديار والأوطان حتي قالوا: إن العربي كان إذا ارتحل أو سافر حمل معه شيئا من تراب الوطن ليشمه في الغربة كلما اشتاق إلي وطنه. وقد تقسو علينا الأوطان, وتسوء فيها الأحوال فنهاجر إلي بلاد نلتمس فيها أسباب العيش الرغيد, ومع هذا تظل النفوس السوية مشدودة إلي وطنها الأول. وطني لو شغلت بالخلد عنه... نازعتني إليه في الخلد نفسي ذلك شأن النفوس السوية المستقيمة علي الفطرة. أما إذا تلوثت الفطرة الانسانية, وصار الوطن بأرضه وشعبه وخيراته مجرد غنيمة تنفتح لها شهية الطامعين في الوجاهة السياسية أو شهية المتشوقين لسلب أمواله ونهب خيراته كما هي العادة التي ألفناها علي امتداد سنوات عجاف ذهب فيها اللصوص بكل حصيلة مصر, وأقول إذا ظل الوطن هكذا غنيمة يقاتل من أجلها كل مغامر وطامع, أو لعبة يعبث بها كل فاسد فماذا يبقي لنا من حول وحيلة سوي أن نبتلع أحزاننا ونمضغ آلامنا ونحن لا نسمع في كل لحظة من ليل أو نهار إلا لغة الشامتين بمآساة البلاد وخرابها, ففي كل مكروه أو مصيبة تظهر الألسنة والأقلام الشامتة وفي أزمتنا الاقتصادية كثرت أساليب الشماتة, وكلما ظهرت في مصر أزمة ارتفعت أصوات الشامتين وكأنهم هبطوا مصر من عالم آخر ليظهروا الشماتة بآلام شعب جريح ثم لا تسمع علي ألسنتهم إشارة واحدة إلي أي عمل إيجابي في البلاد بل يعملون علي تشويه المحاسن, وتضخيم المساويء بأسلوب يعتمدون فيه علي التلفيق والادعاء حتي صارت سماء مصر وأرضها ملوثة بهواء كاذب, وشائعات تفوح منها رائحة الشماتة بوطن يتألم, وكأننا نعيش عاصفة تطارد كل معني يمثل في حياتنا قيمة, وتعصف بهيبة مصر حتي صارت موضوعا لشفقة الأصدقاء, وسخرية الأعداء, وشماتة الشامتين ولو أن الأمر وقف عند مجرد الشماتة لكان هينا ولكن المصابين بهذا الداء حرصوا علي أن تكون الشماتة بيانا عمليا يسر الناظرين علي الحدود, ويسيل له لعاب الطامعين علي اختلاف المذاهب والنظم. وقد نفهم أن يشمت الانسان بأخيه في مصيبة فردية. ولكن كيف نفهم أو نعقل أن يشمت الانسان ببلاده في كوارث هي من صنع أيدينا. ولا يقال إنها شماتة بالقيادة السياسية. لضعف الأداء وبطء الإنجاز فالنقد مطلوب والمشاركة بالرأي في الاصلاح واجب وطني فالبلاد إذا سقطت فلن ينفعها بكاء شعب بأكمله قيادة ومعارضة, ثم ما الحاجة إلي هذا كله؟ وما الداعي إلي أن تصير الحزبية حربا علي الوطن؟ فالأحزاب كالأجيال خاضعة لدورات الزمن المتعاقبة فيوم لك ويوم عليك ولكن يبقي المكان وتبقي الأوطان شاهد إثبات علي سلوك حزب أخلص العمل وحزب تقاعس. وصوت التاريخ لا يرحم.