لقد مر علي الجمهورية الثانية أكثر من نصف عام دون أن نري بادرة أمل في التغيير, وإن كان النظام السابق يتحمل تغييب قطاعات كبيرة من الشعب عن المسرح السياسي. وسط صخب الأحداث السياسية يجري تخريب بنية المجتمع نتيجة غياب رؤية سياسية واضحة قد تدفع ببعض من لم يتم استنفارهم في أحداث الكر والفر اليومية بين العديد من القوي السياسية والمتطلعة للعب دور سياسي في المرحلة الراهنة علي المشاركة بفاعلية في استعادة لحمة الوطن. مايجري خلال الفترة الراهنة ماهو إلا محاولة لتقطيع أوصالنا وتوهين آليات العمل الحكومي وتثبيت بؤر فساد في مواقع جديدة وهذا جميعه نتيجة غياب الرؤية الثاقبة لمستقبل الوطن الذي نحلم بها جميعا. حينما تحركت الجماهير في انتفاضة يناير2011 م كانت تأمل في إحداث تغيير جذري في المجتمع لم يتحقق للآن نتيجة عدة عوامل أهمها عدم وجود قبضة قوية حاسمة حازمة عادلة ذات رؤية تمسك بزمام الأمور ومفاصل الدولة مما أعطي لآليات عمل النظام السابق فرصة التخطيط والتنفيذ لصالحها دون مراعاة لأيه محددات لأن السلبيات ستنسب في النهاية للنظام الحالي الذي يحاول النظام السابق متعاونا مع بعض من تصدروا انتفاضة الشعب إسقاطه. الغريب أن العديد من القوي لاتري أن تلاحم فلول النظام السابق معها يعني أن هدفها من التغيير قد تم القضاء عليه! والمتابع لأخبار المجتمع يمكنه أن يستنتج أن غياب الخريطة السياسية عنصر واضح في تصرفات بعض المسئولين فعلي سبيل المثال نجد أن هيئة التخطيط العمراني قد اقتطعت بعض المناطق من محافظات قائمة لإنشاء محافظات جديدة بلا مطلب تنموي واضح بل وفي غياب للرؤية الهندسية لإنشاء التجمعات السكانية في الوقت الذي يطالب فيه بعض رموز المجتمع بتخصيص دوائر معينة لفئات معينة من الشعب وكأننا نساهم بصورة رسمية في تقطيع أوصال الوطن الذي يحاول البعض داخليا وخارجيا تقطيع أوصاله. يحدث هذا في الوقت الذي يتم فيه تعيين أشخاص بعينهم في مواقع حساسة دون وجود معايير محددة معلنة لشغل تلك المواقع. ويحدث هذا في الوقت الذي يتقدم الساحة الرسمية من يضرب بالدستور الذي لم يجف مداد كتابته بعد عرض الحائط. ويحدث هذا بينما يتصدر المشهد الإعلامي من يفتقدون مقومات انطباق القول علي العمل, ومن يجر انتباه الشارع الي أمور فرعية لا علاقة لها بنهر التنمية في الشارع السياسي مثل الأنشطة المرغوب فيها ولكنها تأتي في سياق مخالف لواجب الوقت مما جعل الأمر مثارا للتندر وسط غباء الغلاء المتوقع بدون طرح أي خريطة للتنمية وكأن برنامج النهضة قد تبخر أليس من الكياسة أن نصارح الشعب عن عقبات تطبيق ذلك البرنامج كي يتعاطف البعض مع أسباب التأخير أم أن الأمر مجرد فكر كما صرح بذلك أحد أفراد الطغمة الحاكمة؟ القضية أكبر من أم تكون أزمة جماعة بعينها, إنها قضية وطن لن يسمح غالبيته أن يضيع, لأن غالبية مواطنيه قد ارتبطوا به ولا يرضون عنه بديلا. وسط هذا يتغافل البعض عن أن الأمن يتردي والعدالة تنهب بحريق المحاكم. القضية أننا في التفافنا مع المحددات الشعبية الخمسة التي تلت إسقاط رأس النظام السابق في فبراير2011 م وآخرها انتخاب رئيس للجمهورية نلاحظ تراخيا في إيجاد هدف قومي تتبعه هندسة للمجتمع من خلال انضباط لمؤسسات المجتمع تستتبعه آليات عمل غير تقليدية ولنتوقف قليلا عند المؤسسات التي شهدت تحسنا نسبيا في مرتباتها لنجد أنها لم تغير سياستها ولم يتغير سلوكها العملي وهو أمر متوقع! القضية أكبر من أن تحلها المسكنات أو الحلول الجزئية, فالوطن يحتاج الي رؤية ثاقبة قبدونها وبإرادتنا السلبية ندفع المجتمع الي الارتماء في أحضان فساد أشد وكأننا نكرر تجربة رومانيا بصورة أسوأ لأن تلك المجتمعات لاتعرف عنف اليد الباطشة عندنا التي يكشفها اختيار النظام السابق من قبل بعض آليات الهيمنة الدولية كمسرح للتعذيب بجانب بعض الدول الأخري التي تعد علي أصابع اليد الواحدة. فهل سيسمح شرفاء الوطن بهذه الردة؟ لا أظن. يتمحور جزء كبير من قضيتنا في أننا نفكر بنفس اليات النظام السابق وكأن شيئا لم يحدث وبراءة الأطفال في أعيننا جميعا وكأنها البلاهة بعينها. ولايحتاج المرء لكثير عناء ليكتشف الكارثة التي تحيق بنا فبالبحث عن آليات الحضارة يمكننا معرفة كيف تدار النقاط الفاصلة في حياة الأمم. لقد مر علي الجمهورية الثانية أكثر من نصف عام دون أن نري بادرة أمل في التغيير, وإن كان النظام السابق يتحمل تغييب قطاعات كبيرة من الشعب عن المسرح السياسي. ورغم ذلك علي من يتصدي للحكم في تلك الظروف أن يعلم, كما هو الحال في جميع الحضارات وجميع الدول, أن عليه أن يتصدر الساحة بفكر جديد من نفسه أو من حزبه أو من داخل مجتمعه وهو أمر ضروري لنجاح حكمه, وهو أمر يستشعره المواطن العادي ناهيك عن المفكر لأن آليات الحكم لم تتغير وتسير بنفس رتابة الفكر القديم باستخدام فقهاء السلطان ذاتهم فهم مصدر كل بلاء في مختلف المجتمعات علي اختلاف دياناته وثقافاته. ولنأخذ مثالين اثنين أولهما فائدة قرض البنك الدولي الربوية التي يفتي البعض بأنها ليست بربا! وثانيهما المقامرة التي تجري علي شاشات الإذاعة المرئية بحثا عن ضربة حظ يقف خلفها شركات تستغل سذاجة الأفراد في الوقت الذي لايلتفت فيه فقهاء السلطان الي خطورة ذلك علي المجتمع حينما نستبدل الحظ بالعمل الجاد! القضايا عديدة وتكشف عن غياب البصيرة وتقاعس من بيده الأمر عن بذل جهد حقيقي لإنهاض المجتمع من سباته. في غياب الرؤية يصبح السراب وهما ويصبح الأمل حلما صعب المنال. لقد آل العديدون علي أنفسهم أن ينظروا صوب الوطن من خلال قيادة حكيمة حازمة لايجدونها, وتطرح بتقاعسها عند بذل الجهد المطلوب خيالات مآتة لاتسمن ولا تغني من جوع. قضيتنا التي نلتف حولها يجب أن تكون الوطن, كل الوطن, بترابه وهوائه وناسه وكل نسمة فيه فلا نسمح لأحد أن يفكر في اقتطاع جزء منه مهما كان عرضيا أو طوليا, فالجميع وطني ووطنك ووطن كل مصري ورغم ذلك أكاد أسمه وأشم صليل الألم فيما يجري علي الساحة من تلاحم الفساد مع شهوة السلطة في فرصة يهديها إليهم من بيده مقاليد الأمور بالتقاعس عن وضع الأمة علي الطريق الصحيح. يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: وسلا مصر: هل سلا القلب عنها: أو أسا جرحه الزمان المؤسي؟ وطني لو شغلت بالخلد عنه: نازعتني إليه في الخلد نفسي. أستاذ هندسة الحاسبات بجامعة الأزهر [email protected]