هجرني أبوك ولم تكملي عامك الثالث قطة صغيرة لم تتفتح عيناها, رد أمي كان واحدا لا يتغير علي سؤالي عن أبي, هكذا بدأت كلامها معي وهي ترتجف وكأن أباها تركها للتو , في عراء الدنيا, بلا غطاء يقيها من تطاول منزوعي الرحمة. كان نقابها يغطي الأسارير, إلا أن بريق عينيها المستتر واتساعهما واضحا, ودموعها المنهمرة باستمرار وهي تحاول تجفيفهما تارة, وتتمنع يداها عن تنفيذ الفعل تارة أخري, تحرجت كثيرا قبل أن تكمل حديثها.. كان الخجل مستأسدا مالكا للموقف, محاولات إيصال الهدوء والسكينة واستجماع المفردات والجمل علي لسانها من جديد لتجد حلا يعيد البسمة الهاربة المحرمة علي من هم بحالها, كل التجارب والمحاولات باءت بالفشل, حتي سألتها عن اخوتها, فكان المفتاح لابنة السبعة عشر ربيعا من طمع الحزن فيها ليسكنها وكأنها كهفه الأثير, سحبت نفسها طويلا ومن خلف النقاب سمعت زفيرا قويا, وكأن صاحبته تتخلص منه لا تود عودته إليها, إلا أنه لم يؤذن له بتركها الآن, وتسلل إلي أذني نحيبها من جديد, ومن بين دموعها خرج صوتها يجهش وهي تقول: اسمي أمل, وعمري17 سنة, لي أربعة من الاخوة.. ولدان وبنتان, وقدري أن أكون أكبر اخوتي, لا أعرف شكل والدي, وصورة أمي تملأ دنياي وكياني, هي السماء والأرض بالنسبة لي, شقيت من أجلنا جميعا, وكنت أتمزق في طفولتي المبكرة عندما أسمع صديقاتي يقلن إن آباءهم اشتروا لهن كذا, أو إن أبي وعدني بالتنزه وسط الحدائق في الأعياد, وكنت في الخامسة عندما تزوجت أمي رجلا, كان حنونا وعطوفا علي وعلي اخوتي, وأدخلني المدرسة, وكان يعاملنا كأبنائه, وأذكره بالخير حتي توفي منذ أشهر قليلة. وسكتت قليلا تسترد أنفاسها, ثم استكملت قائلة: وبالرغم من أني عشت طوال حياتي يستحق كل شيء عانيت منه أن أحكي عنه واجتراري الآلام مع الكوابيس والهواجس والأشياء, وكيف بكيت أمام المرايا مع أشيائي الصغيرة وأنا أسأل نفسي: لماذا أنا وحدي بدون أب برغم أنه لم يمت؟ وتحملت كثيرا الذود عن نفسي وعن أمي واخوتي, أدفع عنهم نظرة العطف من الأعين, وكأننا مساكين ويتامي, لكنها الحقيقة بكل أسف, فنحن كنا ومازلنا مساكين بالفعل, ومازلت أذكر كم كرهت هذا الشعور أياما وليالي وسنوات كثيرة, وتحملت كل هذه الآلام دائما, إلا أن مأساتي الحالية أكبر من كل ما سبق, وأفدح, ومخزية في الوقت نفسه. وصمتت تطلب كوبا من الماء تسقي لسانا تشقق من الحزن, وابتلعت ريقها بصوت واضح وعادت إلي نحيبها وهي تقول: أتممت المرحلة الإعدادية الأزهرية ووصلت إلي سن السابعة عشرة, أتلفت حولي وأتجرع إحساسا بالقهر بسبب معاناة أمي المسكينة طيبة القلب, وفي إحدي الليالي علمت أن بعض الجيران أخبروا أمي بأن هناك عريسا تقدم لخطبتي, ولم أعرف وقتها أسعد كما تفعل الفتيات أم أحزن خشية المجهول والبعد عن أمي وروحي الساكنة بين ضلوعي اخوتي من لا أعرف غيرهم في الدنيا. ومرت الأمور روتينية عقب ذلك, عريس يعمل في مهنة تختص بالرخام بمنطقة شق الثعبان عمره22 سنة, وهنا فكرت أني ربما أكون فاتحة خير علي أمي واخوتي وأخفف عنهم أحد الأفواه المفتوحة, وهكذا تقبلت الأمر بشكل طبيعي, وتم الاتفاق بين أمي وخالتي ووالد العريس علي الأمور المعتادة في الزواج, ولأن سني صغيرة سأل أهلي المأذون, خاصة بعد اطلاع علي بطاقتي الشخصية عن صحة عقد القران, فأكد لنا أنه يصح ولا توجد مشكلات, ورأينا لحيته وهو يصيح أن الزواج سيتم وفقا للسنة النبوية المتبعة, ولم نشك ولو للحظة في المأذون, خاصة أن والد العريس من جاء به إلينا. وخفضت صوتها وخرجت الكلمات بهدوء شديد وهي تقول: وتم الزفاف في منطقة حلوان, ولم تهدأ أمي عن سؤالها عن قسيمة الزواج, فجاء رد المأذون أنه بسبب صغر سن العروس سيحتاج إلي رسوم إضافية1000 جنيه, فلم تتردد أمي واقترضت من أكثر من جار وقريب ودفعت المبلغ, ولكن القسيمة لم تظهر, واستمر الحال كلما سألنا عن القسيمة تبدأ المشكلات, ثم بدأ زوجي يتحول إلي الاعتداء علي بالضرب بيديه حتي كانت إحدي زيارات والده وأخيه الأكبر بالبيت, فطلبت أمي والد زوجي هاتفيا وسألته عن سبب تأخير القسيمة بعد شهرين من الزواج, مما يسبب مشكلات وخلافات, وهددته بأنها ستشتكي المأذون وأوصته أن يكون خارج المشكلة, ولكن أمي فوجئت برد حماي يصرخ قائلا: مش هتعرفي تعملي حاجة, وبدأ سبا في وسط ذهولي أمام زوجي, لكن الثلاثة بدأوا ضربا من كل صوب فأصبت بكدمات متفرقة في جسدي وتورمت عيني, وسلبوا مني الخاتم( المحبس) شبكة العريس, وأسورة أعتز بها أهدتها لي أمي سابقا, وألقي علي زوجي يمين الطلاق, فرجعت إلي بيت أمي وبدأ أهلي مرحلة السؤال عن المأذون عن طريق اسمه بالكارت عن طريق النيابة وقلم المحضرين, فكانت الصدمة لا وجود لاسمه مطلقا وغير مدرج بالدفاتر, فشعرت أنا وأمي وخالتي بأننا سقطنا من حالق ولطمنا علي خدودنا وبكينا, وعدنا نتصل بالمعارف حتي وصلنا لعنوان المأذون المدون علي الكارت أيضا, وقابلناه وفجعنا بقوله: إنه لم ير أيا منا من قبل ولم يزوج أحدا إلا إذا دفعنا5000 جنيه يتقاسمها مع الزوج وأبوه, ويجب أن نتنازل عن كل حقوقي الزوجية بما فيها المنقولات قسيمة تثبت أن الذي فعلناه كان حلالا ولا يغضب الله, وقال: زوجتك بالسنة قلت زوجني وأنت قلت قبلت, وانفجرت دموعها من جديد وعاد نحيبها مرتفعا: والآن لا نمتلك مبلغ5000 جنيه لنقبل المساومة, وأسأل: كيف يكون مأذونا وشيخا يفتي ويعقد قرانا ويضيع من انتظر العطف والحنان بعد طول سنين من المعاناة, فمن يرد لي مظلمتي, ومن الذي يصدق أني زوجة سلبت كرامتها وذهبها وأمنها و......؟!