لم تكن السياسة التي انتهجها نظام مبارك في تجويع الشعب الفقير, بعيدة عن منظومة الفساد التي شكلت العمود الفقري لذلك العهد البائد, فإلهاء الناس عن خطايا الساسة وجعلهم يدورون في ساقية للبحث عن لقمة العيش وصل إلي ذروته قبيل ثورة25 يناير. طوابير الخبز سجلت في العشر سنوات الأولي من الألفية الثانية رقما قياسيا, وحمل الناس الأسلحة البيضاء والنارية في طريقهم إلي طابور العيش في ساعة مبكرة من نهار أيام مبارك السوداء, ويبدوأن النظام كان سعيدا بذلك العدد الكبير من الضحايا الذي كان يتساقط يوميا بسبب مشاجرات المواطنين علي الوصول إلي الشباك من أجل لقمة العيش. لقد أغفل النظام السابق ملف الخبز, وترك تجار الدقيق المدعوم يتلاعبون بأقوات الغلابة متذرعا بارتفاع معدلات الزيادة السكانية كمبرر لتجميل وجهه القبيح في التستر علي الفاسدين من رجال الحزب الوطني الذين كانوا إما يملكون سلاسل من المخابز أو يتاجرون بالتراخيص أو يجلبونها لأقاربهم. في فترة ما قبل25 يناير غرقت مدن مصر وقراها في سياسة القتل الهاديء في طوابير الخبز, ولم يستفد مبارك من انتفاضة الخبز التي حدثت يومي18 و19 يناير في عهد سلفه الرئيس محمد أنور السادات وسقط فيها نحو70 قتيلا, وكانت طريقة تعاطي برلمان فتحي سرور مع أزمة الخبز أشبه بمسرحية هزلية لعب فيها مبارك دور المهرج الأكبر وأحمد نظيف رئيس الوزراء دور البطل الثاني, فنواب الحزب الوطني يقدمون الاستجوابات للحكومة ويسألونها عن فساد مفتشي التموين والتلاعب بحصص الدقيق وسوء حالة رغيف الخبز المعجون بالمسامير والصراصير, وتكتب الصحف عن الأزمة وتقطع جسد الحكومة نقدا او تجريحا, وهنا يتدخل الرئيس ويهدد بإقالة حكومة نظيف إذا لم تتحمل مسئوليتها عن الأزمة, لكنه لم يفعل. في المقابل كانت حكومة نظيف تواصل النصب علي الرأي العام بالإعلان عن إجراءات دعم وهمية لرغيف الخبز ومنح صلاحيات واسعة للمحافظين لضمان الرقابة المشددة علي المخابز ووصول الدعم لمستحقيه وبالتزامن مع خطط الإنقاذ الوهمية كان القتلي يتساقطون أمام الأفران جوعي. بدأ فرن الغضب يزداد اشتعالا, وفقد الناس الأمل في الخلاص من أزمات الخبز وارتفاع الأسعار, في ظل استماتة الحزب الحاكم في الدفاع عن خطاياه, ووصل الأمر إلي حالة كبت دفينة كانت تنتظر شرارة الانطلاق للهجوم. نواب الحزب الوطني, وتحت رعاية الرئيس السابق, حسبما يقول محمود العسقلاني منسق حركة مواطنون ضد الغلاء هم المتهم الأول في حرمان المواطن المطحون من لقمة العيش فهناك عدد كبير منهم كان يمتلك المخابز ويقومون بتسريب حصص الدقيق المدعم للسوق السوداء إضافة إلي تورط العديد من الشخصيات المدعومة من النظام السابق والذي جرد هيئة السلع التموينية من حق استيراد القمح وأسنده إلي رجال أعمال من الطغمة الفاسدة قاموا باستيراد أرخص وأسوأ أنواع القمح في العالم وهو ما انعكس علي جودة الرغيف وفتح باب الفساد علي مصراعيه. ويضيف العسقلاني: إذا انتقلنا إلي مرحلة الطحن سنجد أصابع مبارك حاضرة بفسادها, فالرجل جعل المطاحن في أيدي ثلاثة أو أربعة أشخاص شكلوا فيما بينهم مافيا لم يتمكن أحد من اختراقها أما مرحلة الإنتاج فقد شهدت أبشع صور الفساد الذي جعل وزارة التموين لعبة في أيدي رجال الحزب الوطني ففي الوقت الذي كانت فيه المخابز التابعة لهؤلاء تسرب الجزء الأكبر من حصصها إلي السوق السوداء وتبيع نسبة قليلة من الخبز السييء الذي لا يصلح علفا للمواشي إلي المواطن الغلبان, كان مفتشو التموين يصمتون علي هذه المخالفات ولم يتمكن أحدهم من تحرير محضر لأي من تلك المخابز المحصنة حتي وان حدث فكان الحفظ هو مصير المحضر.. ليس أخطر علي استقرار أي دولة من الجوع, كما يقول العسقلاني, ونظام مبارك نجح بامتياز في تجويع الشعب وحرمانه من أبسط حقوقه رغيف العيش وهو ما أدي إلي انتشار ظاهرة الاقتتال علي الأفران والمعارك المسلحة بين المواطنين للفوز بالرغيف وعليه كان عام2010 وقبيل اندلاع الثورة علي موعد مع سقوط نحو10 قتلي في طوابير الخبز ليكون ذلك مقدمة للثورة. وتابع: كان مبارك يكتفي بقراءة التقارير المرفوعة إليه من الحكومة المتحالفة مع منظومة الفساد وكان يغرد في فضاء آخر بعيدا عن معاناة الشعب الذي يحكمه, وبينما كان شهداء الخبز يتساقطون كانت ثورة اللوتس في تونس قد اشتعلت وحذرت التقارير الرقابية من أن الوضع بمصر ليس بعيدا عن تونس ففصول المعاناة متشابهة وإن تفوقت مصر بأزماتها الطاحنة وغيلان الفساد فيها, لكن زبانية الحزب الوطني وأبواقه الإعلامية انطلقت تبرر وتنفث سمومها حتي يصرفوا عن نظامهم المتصدع عدوي الثورة, لكن رياح الثائرين أتت عليهم فأخذتهم بما صنعوا. وحتي قبل أيام من اليوم الخامس والعشرين من يناير, كان رغيف العيش حلما للجياع الذين كانوا ينتظرون صحوة تطلق أصواتهم إلي فضاء الحرية مطالبين بأدني حقوقهم العيش الحاف.