هناك الكثير من أوجه التشابه بين ما حدث في إندونيسيا في أواخر التسعينيات, وما حدث من احتجاجات في مصر أطاحت بالرئيس مبارك في فبراير2011, فكلا الرئيسان سوهارتو ومبارك حكما البلاد لأكثر من ثلاثة عقود بنفس الطريقة بإحكام القبضة البوليسية, وكلاهما تنحيا بسبب الثورات الشعبية التي يقودها الشباب, مطالبين بمزيد من الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية خاصة أن لكلا الرئيسين ولدين تدخلا في سياسة البلدين واقتصادهما بشكل أدي إلي حدوث تذمر ضدهما. يقول أحمد محمود الصحفي بالأهرام في ورقته البحث كان أيه أحد العوامل الحاسمة لتحقيق الديمقراطية في إندونيسيا الاصرار من البداية علي إبعاد الجيش عن الحياة السياسية, حيث قامت القيادات السياسية بعد سوهارتو بفصل الشرطة عن الجيش وإلغاء حق الضباط العسكريين الموجودين في الخدمة في الترشح للبرلمان, أو الحصول علي عضوية أو منصب في الأحزاب السياسية, مع السماح للجيش بالاحتفاظ بمشروعاته الاقتصادية, حتي يواصل مشاركته اقتصاديا في التنمية كحل وسطي يساعد علي الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي أيضا وبحيث يستطيع الجيش تمويل ميزانيته العسكرية من إيراداته التجارية. العامل الثاني في التطور الديمقراطي الناجح في إندونيسيا هو مجتمعها المدني الذي تمكن من الحفاظ علي وجود قوي في المجتمع, فانتقلت جماعات المجتمع المدني بعد سقوط سوهارتو إلي العمل بنشاط لتقديم الدعم التقني لمؤسسات الدولة مثل القضاء والسلطة التشريعية والتنفيذية ومراقبتها في ذات الوقت. ساعد علي ذلك زيادة حجم الاستثمارات الدولية وزيادة الدعم الذي قدمته المنظمات الدولية علي مدي سنوات عديدة خلال النظام الجديد, رغم أنه في بداية التحول بدا لبعض الوقت أن إندونيسيا غير مستعدة بعد لتحول ديمقرطي حقيقي بسبب بروز الإسلاميين علي الساحة السياسية. ولعبت الجماعات الدينية أيضا دورا كبيرا وحاسما في إنجاح التجربة الديمقراطية, حيث قامت الجماعات الطلابية التابعة لمنظمات جماهيرية إسلامية مثل جماعتينهضة العلماء والمحمدية واللتين كانتا جزءا من الاحتجاجات الطلابية التي أطاحت بالنظام القديم وساعدتا علي الدفع باستقرار النظام الجديد, وكذلك المنظمات غير الحكومية حيث نشطت في تثقيف الناخبين ومراقبة الانتخابات, والمساعدة علي تطوير المناهج التعليمية الديمقراطية في المدارس, وتعزيز حقوق الإنسان والتعددية, وتعزيز الحريات الدينية معتمدة علي مصداقيتها وشرعيتها داخل المجتمعات في جميع أنحاء البلاد, ساعد ذلك علي أن تلعب هاتان المنظمتان الإسلاميتان دورا حيويا في النشر السريع نسبيا للقيم الديمقراطية في المجتمع الإندونيسي. ويقول الباحث إن التجربة الدستورية في إندونيسيا أيضا كان لها بعد متميز, حيث وافقت جميع الأطراف علي وضع دستور إختاروا له الدكتور جاكوب توبنج وهو من أقلية مسيحية ضمن أقليات رسمية في دولة ذات أغلبية مسلمة ولم يكن خبيرا دستوريا بل كان مهندسا ولم تعترض عليه الأغلبية المسلمة كونه مسيحيا لأن المعيار الذي اتفقوا عليه جميعا هو تحقيق الإستقرار. واستقر الرأي علي إعادة استخدام دستور إندونيسيا الأول الذي تم وضعه بعد الاستقلال عام1945, وإدخال تعديلات عليه بهدف إجراء إصلاحات سياسية حقيقية, وكان ذلك بوجود حبيبي نائب سوهارتو الذي انتقلت إليه السلطة بموجب الدستور إثر تنحي الرئيس عام1998 وحظي بالقبول لتولي الرئاسة في الفترة الانتقالية وعمل علي إجراء إصلاحيات حقيقية جادة لاسيما في النواحي السياسية والاقتصادية وأطلق حرية الأحزاب السياسية التي كانت تمثل الجماعات السياسية والدينية الكبيرة في المجتمع والتي عملت بصورة قانونية ومشروعة لعدة سنوات علي تنقية الحياة السياسية, الأمر الذي ساعد أيضا في عملية التحول الديمقراطي بانتخاب الرئيس عبدالرحمن واحد عام1999 بعد تكتل عدد من القوي السياسية( الإسلامية) ضد انتخاب السيدة ميجاواتي سوكارنوتري رئيسة للبلاد رغم حصول حزبها حزب النضال الديمقراطي علي أعلي نسبة من الأصوات في الانتخابات التشريعية لتنتهي الأزمة باختيار الرئيس عبد الرحمن واحد وتعيين ميجاواتي نائبة له. ومازلت أذكر ما قاله لي الدكتور عبدالعزيز أحمد رئيس اللجنة العليا للانتخابات في إندونيسيا حين سألته كيف استطعتم تحقيق هذا التوافق بين الشعب الإندونيسي وبه ما يقرب من260 أقلية عرقية ودينية؟! فقال: رجعنا إلي الآية الكريمة التي تقول: قل تعالوا إلي كلمة سواء.. وهو ما لخص الحاجة إلي استخدام البانشاسيلا أو المبادئ الخمسة التي اعتمدتها القوي وهي الإيمان بالله الواحد الأحد الربانية المتفردة أي أن هناك إلها واحدا يؤمن به الجميع والقومية التي تنادي بالوحدة الاندونيسية. والديمقراطية أو الشعبية الموجهة بالحكمة في الشوري النيابية. والإنسانية العادلة المهذبة. والعدالة الاجتماعية. ويقول الباحث: فبعد استقلال إندونيسيا علي يد سوكارنو عام1945 تشكلت لجنة الإعداد للاستقلال في اندونيسيا لوضع أسس للدولة الناشئة, ولما احتدم الخلاف بين القوي الإسلامية والوطنية حول أساس الدولة هل يصبح المرجع هو الإسلام أم أن الدولة ينبغي أن تكون مدنية, وقتها وضع سوكارنو, وهو أول رئيس لاندونيسيا بعد الاستقلال البانتشلاسيلا لتكون أساس وفلسفة الدولة, حيث أنجزت اللجنة التي ضمت تسعة من الزعماء الإسلاميين والزعماء الوطنيين الإندونيسيين مهمتها في وضع ميثاق جاكرتا الذي تم التوقيع عليه في22 يونيو1945, هذا الميثاق أصبح مقدمة لدستور الاستقلال والذي حدد البانتشاسيلا بوصفها تجسيدا للمبادئ الأساسية للدولة الاندونيسية المستقلة, والتي أعلنها سوكارنو في خطابه المعروف باسم ولادة من البانشاسيلا. وعلي الرغم من أن القوميين الإسلاميين في إندونيسيا أصروا في ذلك الوقت علي الهوية الإسلامية للدولة الجديدة, إلا أن واضع البانتشاسيلا أصروا علي هوية محايدة ثقافيا, متوافقة مع الديمقراطيات والأيديولوجيات الماركسية, لتكون المبدأ الجامع للفروق الثقافية غير المتجانسة للسكان. وهكذا نجت الدولة الإندونيسية من التمزق بعد سقوط سوهارتو1989 ودخول البلاد في حالة من الفوضي والحروب الأهلية كادت تقضي علي نموذج من أنجح ديمقراطيات العالم, وهكذا أيضا نجحت الدولة الإندونيسية التي يبتغ تعداد سكانها238 مليون نسمة موزعين علي260 ديانة وعقيدة تحكمهم أغلبية مسلمة تصل إلي حوالي60% من عدد السكان, حيث كانت الحكمة والرغبة في أن تسمو الدولة علي تلك الخلافات المذهبية والمصالح الشخصية للسياسيين هي السبيل لتنطلق في مسار التقدم بعيدا عن كل تلك المعوقات. الخلاصة أن مرحلة التحول الديمقراطي في إندونيسيا اعتمدت علي: إنهاء عسكرة الدولة وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الإندونيسية. واعتماد الحوار الوطني بين جميع الطوائف السياسية وانتهاج سياسة الوفاق الوطني والمصالحة الوطنية بين جميع التيارات السياسية والدينية. وإجراء تعديلات علي الدستور بما يضمن تحقيق المصلحة العامة وإطلاق الحريات بمفهومها الواسع وتقوية سلطة المجتمع المدني والاعتماد علي منظمات المجتمع المدني لبناء دولة عصرية جديدة وتنمية المجتمعات المحلية. وانتهاج سياسة الشفافية وتفعيل دور الرقابة علي المؤسسات الحكومية ومؤسسات الدولة ومكافحة والفساد. وأخيرا العمل علي ترسيخ مبادئي الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية كأساس لتطور واستقرار الدولة.