لعله ليس معهودا في تاريخ الثورات أن تلوح أشباح الديكتاتورية المقيتة علي أثرها, ولعل سماحيات الظرف التاريخي تتضاءل كثيرا أمام ظاهرة كانت هي بالأمس القريب من أهم دواعي وأسباب اندلاع تلك الثورات. وأيضا لعل الغرابة من ذلك قد تصل إلي مستوي من الشذوذ السياسي لاسيما في دولة كمصر التي احتوت التيار الاسلامي بعد جولة ثورية عارمة آملة أن تجدد سيادتها وتعلي قيمتها وشموخها الحضاري وتستعيد بريقها ووجودها الفاعل, لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن وتجلت نوازع الفرقة والاغتراب عن الذات وطاشت الاتهامات وانطلقت الصيحات مدوية وأريقت الدماء مجددا وباتت الحاجة ملحة لثورة علي الثورة!! شهور قلائل لم يصمد فيها ذلك التيار للمعترك الثوري, لم يدرك فيها قيمة اللحظة وحساسيتها لم يستطع التجاوب مع الطموحات القومية, لم تكن له الشخصية الرصينة المقنعة والمؤثرة, لم يستلهم معاني الكاريزما من مشاهد التاريخ ولم يكن له ذلك الحضور الطاغي في الاحتفاظ بهوية مصر التاريخية, لم يع آليات الاستراتيجية المعاصرة, من ثم لم يقدم طرحا نهضويا خاصا أو مشروعا تقدميا طموحا يتسق بدرجة ما مع مؤشر التردي والتراجع, ذلك انطلاقا من تلك القطيعة الحادة مع الطابع والمزاج العام للشخصية المصرية وعدم الاعتماد علي عناصر نظرية حوارية ذات أسانيد معرفية واسلامية وايديولوجية, فالتيارات الاسلامية التي تبوأت وضعا سلطويا مع اختلاف نمط السلطة تريد في كليتها ان تنتج نسقا معرفيا إسلاميا يقتحم الكيان المجتمعي ولا يترفع عن اعلان الحجر السياسي محاولا تسخير الاديان والفلسفات ومختلف المعارف النفسية والتربوية والتاريخية لضبط ايقاع المجتمع وتدجينه بما يتناسب وصالحه السياسي المتمثل في عدم اصطدامه بالقاعدة الجماهيرية, من ثم فقد جاء خطاب هذه التيارات مستهدفا اضفاء الصبغة الدينية في تحوراتها السياسية علي ارائه ذلك حتي يسلم الاخرون بصحتها وصدقها ومدي ابداعيتها, وان كان ذلك في حقيقته ليس الا نوعا من التحريض الضمني لمسار الوعي بأن هناك وصاية دينية لفئة تسمح لها بتكفير المجتمع ما لم يحقق التطابق التام معها فكرا وسلوكا, ويعني ايضا ان تخندق فئة وتسترها تحت الشعارات الاسلامية ان باقي شرائح المجتمع ليست اسلامية. ولعل الذي اطاح بهيبة التيار الاسلامي المصري علي اختلاف فصائله هي تلك العنصرية الدينية التي جعلته يمتلك نزعة استعلائية بجانب كبريائه الهش باحكام قبضته علي مقاليد السلطة وهو ما جعله غير مكترث بانسحاب اي فصيل سياسي او ديني يكون معارضا للتوجه العام الذي ارادوا للدستور المصري الجديد ان يشايعه مكتفين بانفسهم لانهم هم البقية الباقية من السلف الصالح التي لا تجتمع علي ضلالة مطلقا, وهو ما احدث انشقاقا مجتمعيا حادا, طرفاه هم الانصار والخصوم وما بينهما من الوشايات والدسائس والفتن والاراجيف. لكن الموقف المصري المحتدم والذي ربما يؤدي بكارثة كبري تجتمع الغالبية فيه علي ان الاعلان الدستوري الذي انتجه النظام لا يمثل الا اعتداء سافرا علي سلطة القضاء وان تحصين قرارات النظام بعدم الطعن عليها قضائيا لا يعني الا هدم للشرعية تستثني من ذلك تلك القرارات الفوقية التي تمس الامن القومي. وان العدول عن الاعلان الدستوري هو فضيلة كبري لكن النظام المصري يضع شعبه بين شقي الرحا فان جاء التصويت لصالح الدستور فقد سقط الاعلان من تلقاء نفسه وان جاء علي العكس من ذلك فلديه الاعلان وسيلة سيادية واداة ضغط وقهر تمارس من جديد. وهذا وفي كل الاحوال هو مغامرة او رهان علي الخطأ واقتراع علي المبدأ الخطأ فان حدث توافق فهي مغالطة سياسية ودستورية ننأي بمصر ان تقع في براثنها وان اكدنا هذا الخطأ بالرفض فلا جدوي من تقرير الحقائق او اثبات الثابت. ولعل الحالة المصرية الراهنة تطوقنا بكم هائل من التساؤلات المنتمية لجوهر القضية علي عمومها وفي لحظتها الأنية والمتمثلة في: كيف لنظام أتي بعد ثورة اقتلعت ديكتاتورا عاتيا ان يشعل الشارع المصري ويشق صفوفه ويريق دماءه ويحمل خطابه لغة اعتزلتها البشرية منذ قرون وقرون؟ كيف يستأثر فصيل الاسلام السياسي بالغنيمة الدستورية ويعمل علي إقصاء أباطرة القانون الدستوري؟ بل كيف تجاهل تلك الابجدية القانونية في اقرارها بالفارق الهائل بين المادة الدستورية والمادة القانونية؟ بل كيف لمصر ان تقاد في لحظتها تلك بدستور هش تنعت بنوده بعدم الدستورية؟ ولماذا يصبح الاصرار آلية منهجية لدي النظام وهو الباعث علي الشكوك والهواجس لدي القطاعات المصرية العريضة؟ وكيف اكسب النظام ذاته شرعية ليست له في الغاء الاعلان الدستوري السابق واستصداره لاعلان جديد؟ وكيف للوثيقة الدستورية المطلوب التوافق عليها واقرارها ان تغفل مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة؟ وكيف يتم تطويع الوثيقة الدستورية للاتجاهات الشخصية والسياسية والانتماءات المذهبية والولاءات الايديولوجية؟ ولماذا لم تتقدم صيحات اعلاء الصالح القومي علي غيرها من الصيحات المدوية والمتمحورة بين التأييد والمعارضة؟ ولماذ يصبح التأييد أو المعارضة هي السمه المتغلبة علي غيرها من الصيحات في لحظتنا الراهنة؟ ولماذا اتحصرت جميع جبهات الرأي أو تقوقعت داخل هذه وتلك؟ ولماذا غاب مفهوم التوحد والالتفاف حول تلك المصالح العليا؟ ولماذا اقتحمت تنويعات العنف لغة الخطاب السائد بين الاطراف من العنف اللفظي والانفعالي واللاعقلاني والتي افرزت بدورها انواعا شتي من العنف السياسي والاجتماعي والديني؟ ولماذا لم تكن مصر هي القبلة الوطنية المقدسة؟ ولماذا وحتي الان لم ينسلخ النظام من جماعته التاريخية ويصبح ولاؤه لمصر قبل اي شيء آخر؟ ومن ثم كيف لنظام لم يستطع ولم يقو علي ادارة الحوار الوطني بتعادلية خاصة ان يكون طرفا فاعلا في الحوار الحضاري الكوني؟ هذه هي مصر المعاصرة التي باتت ساحة خصبة للاقتتال والتطاحن بعد ان وضعها التيار الاسلامي السياسي في كف الضياع والاندثار.. هذه مصر التي سماها ابن بطوطه بأم الدنيا وعند جرار دي نرفال أم المعارف والحضارات وهي التي اخترعت الأبدية عند اندريه مالرو لكن عند تيار الاسلام السياسي اختزلت مصر في بؤرة الاستقطاب الديني والذعر السياسي والسخط المجتمعي.. من ثم فلا جدوي من الخطا السريعة اذا كنت تسير علي الطريق الخطأ! باحث وكاتب