لعل المجتمع الدولي بكل كياناته المعاصرة إنما يستخزي من الوضع الفاضح للسياسة الإسرائيلية الطائشة في إحدي جولاتها البشعة علي غزة مسجلة نذر خطر جديد باعتمادها أفعال العنف الوحشي. مبدأ يشبع الخواء العقلي الذي يمقت الحديث عن السلام وينأي بنفسه عن ممارسته باعتباره مطلب الضعفاء والمستضعفين وحيلة الأقزام الذين لا حظ لهم من القوة ولا باعث لديهم في تحقيق الندية النووية وكفاهم يتكالبون علي كسرة الخبز. ولعله لم يعد مستغربا علي هذه السياسة وطيلة ثمانية عقود ان لا تقف من نفسها موقف المراقب المصحح لأساليبه واستراتيجياته الثابتة, وإنما المستغرب حقا هو موقف ذلك المجتمع الدولي الصامت دائما إزاء جرائم هذه السياسة التي باتت تمثل اشكالية فكرية اكثر من كونها ازمة سياسية مع الكيانات العربية إذ ان الأزمات السياسية يطوقها المد الزمني وتطويها المتغيرات الحادثة بفعل المصالح الملحة الطارئة لكن لا هدف للسياسة الإسرائيلية إلا مزيد من الانفعالات الفجة التي دائما ما تفتقر لأسباب وجودها, فمن يقول ان هذه السياسة لا تحتاج مطلقا لمنطق الأسباب والمسببات لأنها تمتلك قدرة هائلة علي اختلافها بل والدعاية الآسرة لهذا الاختلاق! وقد يكمن مغزي هذه الإشكالية الفكرية في مدي رتابة العقل الإسرائيلي واعتماده علي نمطية خطرة قد تودي بأهداف بعيدة المدي فكيف لهذا العقل ان يسوده تصور استاتيكي احمق بأن سياسات الدول الكبري سوف تظل سلبية إزاء مشروعه التوسعي ومن أين أتاه اليقين بأن كل التغيرات التي تجتاح الكوكب الأرضي يمكن ألا تحد من جموح هذه السياسة لاسيما وان المعقوليات في عالم السياسة يتضاءل حيزها الي مدي غير متوقع وربما لأسباب غير مطروحة أو متوقعة أيضا؟ وكيف استطاع هذا العقل إقامة نسيج خاص من القطيعة الفكرية مع الأبجديات الاستراتيجية التي تحدث عنها روبرت جرين والتي تتقدمها استراتيجية الاقتصاد التام والقائلة بأننا جميعا نمتلك قدرات محدودة وان طاقتنا ومهارتنا يمكن ان توصلنا إلي حد لا نستطيع تجاوزه, ومن ثم يكون اختيار المعارك بعناية فائقة نظرا لخسارة الوقت وهدر الرصيد السياسي وإيجاد عدو تواق الي الانتقام, وكذلك استراتيجية العدوانية المستكينة التي يتصدر بنودها أننا نعيش في عالم تهيمن علي مقدراته الكثير من الاعتبارات السياسية, ومن ثم يتطلب ذلك نوعا من الحرص علي إخفاء تلك العدوانية بحيث يمكن إنكار وجودها, بدلا من ان تكون هي العدوانية السافرة المعلنة عن ذاتها كل آن, وكل ذلك يطرح بدوره مسمي استراتيجية الخروج الداعية الي ان النهاية غير المكتملة أو الفوضوية يظل يتردد صداها لسنوات طوال وان ذروة الحكمة الاستراتيجية المستخلصة هي ان تتجنب جميع النزاعات التي لا مخارج واقعية لها, وهو ما يلتقي مع المبدأ التاريخي للعسكرية الإنجليزية والقائل.. خير لك الا تبدأ من ان تبدأ ولا تعرف كيف تنتهي! وإذا كان العقل الإسرائيلي المعاصر قد فقد قدرته علي استيعاب الاستراتيجيات السياسية والعسكرية واصبح هو البؤرة المرتبكة التي لا تستطيع استلهام اللحظة التاريخية ولا تعي معاني الجوار ولا تتفهم محظورات القانون الدولي لأن لغته الأولي انما تعتمد في جوهرها علي منطق الدم واحصاءات الإبادة ولغته الثانية تتمثل في نسف قنوات الحوار وإطلاق صياحات التنديد والوعيد وبث القلق والاضطراب في جنبات الساحة الدولية واعادة تركيب القضايا وخلخلة بنائها وتغيير طبيعتها بما يبرزها في شكل مغاير عن كينونتها ومسماها ومن ثم فإن الفاعلية الذهنية تظل فاعلية شوهاء حين تكون انعكاساتها ومردوداتها غير ذات أثر إذا قيست بحقوق الشعوب ومصالحها. ولعل الجبهة العربية إزاء ذلك لابد لها ان تنهض نحو تفعيل استراتيجية مركز الجاذبية والمنطلقة من ضرورة البحث عن ذلك المركز أو النقطة الحيوية التي تتمحور حولها جميع توازنات الطرف الآخر ويحاول حمايتها, فذلك هو المحور الذي ينبغي المساومة عليه باعتباره درة التاج, وعلي ذلك فالمعني الكامل أو المباشر هو ان الجبهة العربية يجب ان تستخدم وتوظف وتستغل كل بؤر الضعف مستعينة بقوي الضغط في اقصي درجاتها ولعل سلاح حظر البترول يعد أمضي ردود الفعل ضد جميع الدول المهادنة للهجمات الاسرائيلية علي غزة وغيرها من الاراضي الفلسطينية, إضافة الي التلويح بعدم إبرام أي اتفاقات أو معاهدات جديدة بل وإجراء التعديلات الواجبة للاتفاقيات القديمة والتي اصبحت مخلة بالأمن القومي العربي في ظل إشاعة ترسيم الحدود مجددا, وإذا كانت أولي عطايا أوباما وهباته أوالصكوك السياسية الأمريكية هي التأييد المطلق لضرب غزة واجتياحها, وهو نفس المنطق الأمريكي العتيق الذي دفعت الشعوب العربية في مقابله أثمانا باهظة من دمائها وتاريخها ومستقبلها وكرامتها فإنه اصبح من غير الممكن بل من غير الجائز قبول ضياع الحق السياسي العربي بعد تلك الاستفاقة والصحوة التي احدثها هدير الثورات العربية الذي طالما انحاز له الغرب بأكمله كما انحاز أيضا للإطاحة به من قبل اسرائيل وحدها! ولعل الحادث في غزة الان وقبل الان يعد هو الخطوة التمهيدية أو أولي خطوات الألف ميل نحو المشروع الأكبر الذي تقدم به جيبورا ايلاند رئيس المجلس القومي الإسرائيلي السابق والطامح في إقامة دولة فلسطينية تمتد إلي أراض مصرية وأردنية عن طريق توسيع قطاع غزة وتعويض مصر بأراض أخري في صحراء النقب, وهو نفس المسار الذي خاضه جدعون بينجر استاذ الجغرافيا السياسية بجامعة تل أبيب نحو إقرار مشروع ترسيم الحدود لأربع دول عربية بهدف تغيير الحدود في مصر بشكل يتيح لاسرائيل الحصول علي سيناء! وهكذا تتجلي المرامي الخفية لمشروع سياسي أرعن لا يعبأ بمعطيات اللحظة المعاشة ولا يؤمن بقيمة إنسانية ولا يعير اهتماما بأي كيان سياسي حتي لو كان هو داعمه الأوحد ومن ثم لا يكترث لتاريخ أو جغرافيا أو رمز أو حضارة وإنما يحتفي بالأساطير والميثولوجيات زاعما انطواءها علي الحقائق الخالدة وهي لا تفيض بغير الأكذوبة الكبري.