قضيت سنوات طفولتي في الباجور منوفية حيث ولدت ولم يكن في بلدنا حتي سنة1965 لاكهرباء ولاتليفزيون أوغيره من التقنيات أو وسائل الاتصال الحديثة, وكانت اعداد الراديوهات التي تعمل ببطارية جافة لاتزيد علي اثنين أو ثلاثة في البلد كلها, تنقل بالكاد أخبار جمال عبد الناصر وبعض مايحدث هناك بعيدا في القاهرة, واستيقظنا ذات صباح لنعرف أن الحاج عباس البرعي وهو تاجر محترم سيقوم بتركيب تليفون في محله, وراح الناس يتساءلون يعني إيه تليفون؟ فيجيب بعض العارفين: يعني مكنه ممكن تكلم بيها من يعيش في مصر. وربما يضيفون بل ممكن تكلم فيها من يعيش في بلاد بره. والناس تخبط كفا بكف كيف يمكن أن نكلم من يعيش في مصر؟ هل سيمشي الكلام في السلك؟ وكيف؟ لا إله إلا الله, انها من علامات الساعة, تذكرت بعد ذلك صراع عبد العزيز آل سعود مع المحافظين ورجال الدين في مملكته الوليدة حول دخول التليفون الي المملكة باعتباره من أعمال الشياطين, وربما كان هذا الموقف هو مادفعني لكي اتساءل: متي بدأت تلك القسمة الحادة بيننا وبين الغرب؟ وما اذكره انني ومنذ سنوات الطفولة تلك قد أدركت أن تلك القسمة التي تقفز الي الاذهان عند أي مقارنة مع ذلك الغرب, وهي قسمة تصب في مصلحتنا بكل تأكيد, فاذا كان مجال المقارنة هو حظ الغرب الكبير في الدنيا وحظنا المتواضع فيها, كانت القسمة تقول أن للغرب الدنيا, وان لنا الاخرة, وطبعا الدنيا فانية والي زوال اما الاخرة فهي الابقي والأخلد, وعلي هذا المنوال تستمر المقارنة, فلهم المال والجمال ولنا القيم الروحية, ولهم التقدم المادي ولنا الاخلاق وأنا لا أعرف لماذا لم تتطرق تلك المقارنات الي الجانب السياسي بين حظهم من الديمقراطية وحظنا الهائل من التخلف والاستبداد المهم أن هذه المقارنات أسهم فيها الجميع, العامة, ووعاظ المساجد في محاولة للتصبر والقناعة والرضا بالقليل, كما أسهم الكثير من رموز الرجعية والسلفية ومازلت اذكر حديث الدكتور مصطفي محمود رحمه الله عن نسب الانتحار المرتفعة في السويد, وحديث الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله ايضا عن تسخير الله للغرب لكي يصنع لنا السيارات الفارهة والطائرات وغيرهما من ادوات التكنولوجيا لكي نستمتع بها نحن علي الجاهز دون أن نتعب أو نبذل جهدا طبعا دون اي وعي بالفرق بين المستهلكين والمنتجين كما أسهم في تلك المقارنات المتعسفة ايضا توفيق الحكيم بكتابه عصفور من الشرق, وايضا العديد من رموز العقلانية والتنوير, واكتفي هنا باربعة منهم, أولهم الدكتور زكي نجيب محمود بكتابه الشرق الفنان والذي يوكد فيه الطابع الوجداني والروحاني للشرق مقارنة بالطابع المادي العقلاني للغرب, والثاني هو الدكتور حسن حنفي بكتابه التراث والتجديد والذي زاده تجديدا بكتابه مقدمة في علم الاستغراب. والثالث هو الدكتور عبد الوهاب المسيري بكتابه العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وأخيرا جلال أمين بكتابه خرافة التقدم والتأخر, والغريب في الأمر هو ذلك الاجماع الكبير بين العامة والمحافظين والتقدميين علي تلك القسمة الحادة بين الشرق والغرب ولم يهتم أحد بالاجابة عن اسئلة مهمة مثل: اذا كان الامر كذلك فلماذا نعلم أولادنا في المدارس؟! ان مشعل الحضارة قد انتقل من المصريين القدماء إلي اليونان ثم عاد الي الشرق المسلم والمسيحي ليعود بعدها من خلال ابن رشد وعبر الاندلس والحروب الصليبية والبحر المتوسط الي اوروبا لتقيم عليها عصر نهضتها؟: هل يمكن أن يكون هناك تقدم مادي محض, بلا أي جوانب أخلاقية أو روحية وجدانية؟ وهل يمكن أن تكون هناك قيم خلقية دون أن يكون لها انعكاس علي اشاعة قيم العدل والحرية والتقدم والانتاج؟ ولماذا راح قادة نهضتنا الحديثة منذ الطهطاوي حتي الان مرورا بلطفي السيد وهيكل وعلي مبارك والخديو اسماعيل ومنصور فهمي وطه حسين وعلي عبد الرازق ولويس عوض ورشدي سعيد وحامد عمار وسيف الدين فهمي.. وغيرهم راحوا جميعا ينهلون من حضارة الغرب المادية وعادوا ليبشروا بها وينشروها بيننا؟ ثم اذا كان الامر كذلك, فهل تلك القسمة بين الشرق والغرب ستظل قدرا الهيا وابديا لاسبيل الي الفكاك منه او تغييره؟ هل ستظل القيم الروحية والوجدانية والاخلاق مع الفقر ورقة الحال هي فقط نصيبنا من هذا العالم الفاني, الي أن يحين حيننا في الاخرة؟ بينما سيظل الغرب يتمتع بنصيبه من التقدم المادي ومايصحبه من عدالة ومساواة وديمقراطية وحرية وحقوق انسان. لعبت هذه الافكار برأسي منذ زمن بعيد, غير انها تشتعل كلما جلست أمام الكمبيوتر كما اجلس اليه الآن ومن المعروف أن الكمبيوتر بدأ كآلة صماء في الجيش الامريكي ابان الحرب العالمية الثانية1939 1945 حيث كان الهدف منه مجرد حفظ اسماء واعداد الجنود وسهولة استرجاعها أو نقلها بطريقة آلية من موقع الي آخر, أما الآن فان الكمبيوتر قد أصبح عالما لاحدود له ولا لامكاناته, عالما صاخبا مليئا بالاصوات والانغام والالوان والمعلومات والاتصالات والحسابات والقدرات التي تتجاوز الغرف المغلقة التي يقبع فيها الي الكون الواسع من حولنا فيقوم بتسيير الطائرات والصواريخ والسفن والمركبات الفضائية والاقمار الصناعية وغيرها مما يستعصي علي الاحاطة والحصر. غير أن ما أحب ان اتوقف عنده الآن هو الاخلاق التي تكمن خلف تلك الآلة العجيبة أو اخلاق الكمبيوتر, ومما لاشك فيه ان للكمبيوتر أخلاقا بل أخلاقا نبيلة وفاضلة. فالكمبيوتر يسعي باستمرار للتيسير علي البشر وتوفير طاقتهم وجهدهم ومعاناتهم, فبضغطة صغيرة تجد نفسك وأمامك صحف الدنيا كلها تقرأ وتستمتع وتستفيد وتحلل وتقارن وتستوثق, كما يتمتع بالموضوعية والتجرد وتكافؤ الفرص, فلايهمه ان كان الجالس ولد عفريت لايملك سوي جنيه واحد ثمن ساعة يقضيها في السايبر, المهم أنه يستطيع التعامل معه وفك رموزه, أو كان الجالس اليه باشا ثريا يستطيع شراءه فقط لزوم التباهي والفشخرة, فهو يعطي امكاناته لمن يستطيع لا من يمتلك, كما يؤمن الكمبيوتر بالامانة, فكل شئ مثبت وموثق بالتواريخ والارقام, ومن الصعب ان يساعد احدا في سرقة المعلومات والافكار, والكمبيوتر يعرف معني الدقة والامانة العلمية فهو لن يساعدك اذا كنت تريد ان تعرف شيئا عن عبد العزيز ولكنك سهوت او اخطأت في كتابتها والكمبيوتر قبل هذا كله يقدر قيمة الوقت والمعرفة والتسامح فلا يفرق بين المتعاملين معه علي اساس اللون أو العرق أو الدين أو حتي الثروة. كما يؤمن الكمبيوتر ايمانا يقينيا بالمساواة المطلقة بين الرجال والنساء فلا يفرق بينهما باي شكل من الاشكال ومع كل ذلك فان هناك بعض الاثار الجانبية كأن ترسل شمطاء عجوز صورة فتاة مليحة لمن تريد أن تتعرف به كما حكي أحد الافلام ولكن هذه هي مشكلة اخلاق البشر وليس الكمبيوتر. هذه كلها بلا شك اخلاق نبيلة نسعي اليها ان نتحلي بها ونربي اولادنا عليها فهل نعيد التفكير في طرق تفكيرنا لنعيش العصر بتقدمه المادي والاخلاقي, أم أن نكتفي بالوقوف في التفكير والتعليم علي اطلال مناهجنا البلهاء. [email protected]